العودة إلى الدولة

2024.05.22 | 06:22 دمشق

آخر تحديث: 22.05.2024 | 06:22 دمشق

48888888888888888886667
+A
حجم الخط
-A

لكي يعود السوريون إلى الدولة لا بدّ من الاعتراف مسبقاً، بأن الدولة في سوريا لم تعد قائمة، فالتعريف الكلاسيكي للدولة يشترط تحقّق ثلاثة أركان، أي لكي يُطلق على كيان سياسي ما اسم "الدولة" لا بد له من توافر ثلاثة أركان هي: الإقليم، والأمّة، والهيئة الحاكمة ذات السيادة، وعليه فإن الدولة الحديثة تُعرّف بأنها مجموعة بشرية فوق إقليم محدّد، تحت سلطة هيئة حاكمة ذات سيادة.

في قراءة أولية للوضع السوري، نجد أن كل هذه الركائز غير متوافرة في سوريا الراهنة، فالإقليم مقسّم ومحتل من قِبل قوى متعددة، والأمّة متشظية ومنقسمة، وتم تهجير نصفها، والسيادة موزّعة بين أطراف داخلية وخارجية يصعب عدّها.

ربما يقول البعض إن سوريا لم تعرف الدولة بمعناها الحقيقي بعد الاستقلال، وقد يجد هذا الرأي مبرراته، لكننا سنجد أن التعريف الأوّلي للدولة بأركانها الثلاث يمكّننا من القول إنها كانت دولة بغض النظر عن توصيفنا لها، واختلافنا حول وظيفتها وعلاقتها بأفرادها.

إن الأزمات الشديدة تفرض على النخب الوطنية - على تنوّعها- البحث عن حلول وإجراءات سريعة تمنع تفكك المجتمع، وتحمي وحدته، وتعزّز من قدرته على التماسك.

تعرضت هذه "الدولة" لأزمة شديدة بعد ثورة السوريين في آذار 2011، وبغض النظر أيضاً عن أسباب هذه الأزمة، فإنه من البدهي القول إن الأزمات الشديدة تفرض على النخب الوطنية - على تنوّعها- البحث عن حلول وإجراءات سريعة تمنع تفكك المجتمع، وتحمي وحدته، وتعزّز من قدرته على التماسك.

في الأزمات الشديدة غالباً ما تندفع الكتلة السكانية التي تشكّل الأمّة في أي دولة إلى التباعد والتوجه باتجاهات مختلفة، وتتصاعد احتمالات هذا التباعد، كلّما استمرت الأزمة وكلما غابت الحلول التي توقف هذا التباعد، وهنا يكمن دور القوى السياسية، والفكرية، والدينية، والاقتصادية والمجتمعية في منع تفكك المجتمع، وزيادة مساحة التضامن والتعاون بين أفراده، وتعزيز المرونة الاجتماعية والتماسك الاجتماعي.

من الطبيعي أن تضرب الأزمات أولاً نقاط ضعف المجتمع، ونقاط الضعف هذه ليست واحدة على الدوام، فلكل أزمة نقاط ضعفها، فالأزمة الاقتصادية لها نقاط ضعف تختلف عن نقاط ضعف الأزمة السياسية، وكذلك الأمر بالنسبة للأزمات المتعلقة بالدين أو الهوية، أو..أو. وقد تتقاطع الأزمات على تنوعها بالعديد من نقاط ضعف المجتمع، وهو أمر قائم في كل المجتمعات، وإن اختلف بين مجتمع وآخر، لكن يمكن القول بشكل عام إن الصدوع العمودية والأفقية هي بؤر نقاط الضعف في أي مجتمع، وعليه فإن الخطورة تزداد كلما اتسعت نقاط الضعف، وشملت صدوعا عمودية وأفقية في وقت واحد، عندها يُصبح التشظي أكثر سهولة وعمقا.

تلعب الدولة أهم وظائفها، لا بل يتكثف معناها الأهمّ، في كونها تُشكّل الملاط الذي يرمم الصدوع داخل المجتمع، سواء العمودية أو الأفقية، وفي كونها جدار الحماية الأهمّ لمنع انتقال الأزمات الشديدة إلى الركائز الأساسية فيها، لكن كل هذا مشروط بمدى قوة الدولة ورسوخ مؤسساتها ووعي دورها وأهميتها لدى عموم أفرادها، وفي حال تضعضع هذه الشروط، فإن احتمال الانقسام المجتمعي يزداد، لكن الأخطر في هذه المعادلة، هو تعمُّد أطراف الصراع في أي أزمة على تركيب الصراع على الصدوع العمودية للمجتمع.

من الصعب جداً على القوى والنخب السورية كلّها فصل الأجهزة الأمنية عن سلطة العائلة.

على ضوء ما سبق، يُمكن تفسير وتوقع مآلات الأزمات الشديدة التي تضرب في مجتمعات لا تزال انتماءات ما قبل الدولة حاضرة بقوة فيها بسهولة نسبياً، وخصوصاً إذا كانت الدولة هشّة، ولا تقف محايدة أمام جميع أفرادها، ولا تعلو أهميتها وضرورتها في وعي وثقافة معظم أفرادها فوق انتماءاتهم القبْليّة، وهذا ما نلمسه بوضوح في ما يحدث في سوريا، منذ انفجار ثورتها.

كان من الضروري جداً أن تتنبّه "المعارضة" السورية أولاً، وكل النخب السورية بغض النظر عن موقفها من الصراع الذي تفجّر في آذار 2011 إلى خطورة انهيار الدولة، وخصوصاً عندما تعمّد النظام السوري استعمال مؤسساتها كأداة في حربه ضد الشعب السوري، هذا الاستعمال الذي بدأ منذ أن استولى البعث على السلطة في عام 1963، لكنه وصل إلى أكثر وجوهه صفاقة في مرحلة حكم عائلة الأسد، عندما أصبحت معظم مؤسسات الدولة تتبع العائلة وتُدار من قبلها.

ستبدو الفكرة ملتبسة إلى حد ما، إذا لم أوضح أنه كان من الصعب جداً على القوى والنخب السورية كلّها فصل الأجهزة الأمنية عن سلطة العائلة، وإذا كان هناك أملٌ ضعيفٌ في تحيّيد مؤسسة الجيش، فإن هذا الأمل تلاشى منذ البداية، عندما بدأت دبابات الجيش السوري توجه مدافعها نحو السوريين في مدنهم وبيوتهم، لكن كان هناك ما يُمكن فعله، وكان حاسماً فيما لو استُعمل، وأقصد عدم الإنجرار مع ما خطط له بشار الأسد وعصابته، ومعه إيران وحزب الله بتفتيت النسيج الاجتماعي السوري، وجعل مكوناته في حرب فيما بينها.

إعادة الاعتبار للأمّة السورية بوصفها هويّة جامعة عليا، ولعلّ أخطر ما يتهدد إعادة الاعتبار هذا، هو أن كل الأطراف الخارجية الفاعلة في الصراع السوري تستثمر في الانقسام المجتمعي السوري، وتعزّزه، وتربط مصالحها به.

اليوم تبدو المهمة أشدّ صعوبة، لكنّها رغم صعوبتها، فإنه ليس أمام السوريين طريق آخر سوى سلوك طريق العودة باتجاه الدولة، وإذا كانت الدولة محطّمة في كل أركانها، فإن الأولوية اليوم تكمن في استعادة أهم ركائز الدولة، وهو إعادة الاعتبار للأمّة السورية بوصفها هويّة جامعة عليا، ولعلّ أخطر ما يتهدد إعادة الاعتبار هذا، هو أن كل الأطراف الخارجية الفاعلة في الصراع السوري تستثمر في الانقسام المجتمعي السوري، وتعزّزه، وتربط مصالحها به، يضاف إلى ذلك تنامي الشعبوية المقسِّمة، وتعميم خطاب الكراهية، عبر استنهاض مظلوميات متوهمة أو مبالغ فيها.

لا بدّ من وضع استراتيجيات قصيرة المدى، وطويلة المدى للعودة إلى الدولة بمعناها الحقيقي بوصفها سبب الصراع، وبوصفها الحل الذي يُريده السوريون، ولعلّ هدف تأميم السياسة بوصفها الحقل الأمثل لإدارة الصراع، وبوصفها أيضاً الطريق الصحيح لاستعادة صيغة الأمّة السورية، وبوصفها أخيراً إنهاء لصيغة الاستبداد القائم، ومنع احتكار السلطة بيد المافيات الحاكمة، يوجب تصنيف هذا الهدف في الاستراتيجيات الطويلة أو المتوسطة المدى، أما في الاستراتيجيات القصيرة المدى فهناك ضرورة التصدي للأصوات المأجورة، أو المرتهنة للنظام ولغيره، في الداخل والخارج، والتي تتاجر بالدم السوري، وتنفخ في قربة المظلوميات والهويات الفرعية.