الضابط الذي "لقي مصرعه في ظروف غامضة"!

2022.10.03 | 05:56 دمشق

bshar_2.jpeg
+A
حجم الخط
-A

تتراوح أعمار كبار الضباط في جيش النظام وأجهزة أمنه، في رتبتي عميد ولواء، بين الخمسين والستين. قلَّ منهم من يعتني بصحته، وقد عاش أكثرهم ما يزيد على عقد من السنين في ظروف من التوتر الوجودي والقلق على الحياة و"القطعة" والأبناء والأقارب الذين قد يكونون موزّعين على جبهات عديدة وربما قُتل منهم. وفي بلد مثل سوريا لا يندر أن يصاب بعض هؤلاء بجلطات مفاجئة قد تكون مميتة.

ولا يختلف حال الضباط عن واقع سياراتهم المنهكة بقطع تبديل ربما تكون مسروقة ومستعملة، أو مشتراة بسعر زهيد من قبل أحد العناصر "المفيّشين" كطريقة للرشوة. كما أن رويّتهم لا تعلو كثيراً على رعونة سائقيهم المسرعين على توصيل "المعلم" إلى الضيعة في زمن قياسي، على طرق عانت من ويلات المعارك ومرور الدبابات ولم تأخذ نصيبها من الصيانة نتيجة انهيار الخدمات العامة وتركيز الموارد على دعم "الحرب".

ومن هنا، أيضاً، تزايدت حوادث السير الخطرة التي تصيب الضباط الذين يكونون كثيري التنقل في العادة، في مهمات أو إجازات، بالمقارنة مع باقي السوريين الذين هاجروا بسفرة واحدة أو هجعوا في أماكنهم بانتظار فرج ما.

ففي عُرف كثير من وسائل الإعلام المعارضة لا يمكن أن يموت هؤلاء بوفاة طبيعية نتيجة عارض صحي مفاجئ أو بحادث سير كما يقول النعي. وفي ظل انتشار نزوع تآمري، مذعور وشكاك، لا بد أن وراء كل خبر حكاية غامضة؛ تبدأ بأن الضابط الراحل قد "انتهى دوره" وتصل إلى أن النظام "صفّاه" بأسلوب خفيّ يظهر كموت عادي

كانت هذه الوفيات تحصل على الدوام، وإن زادت نتيجة الأسباب السابقة، ولم تكن تُعرف إلا على نطاق ضيق. لكن ظروف التخندق والترقب، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي لم تترك قرية من دون صفحة وشخصاً من دون بروفايل؛ أتاحت لهذه الأخبار أن تجد طريقها إلى العلن مصحوبة بالصورة، وفتحت الباب أمام "التأويلات".

ففي عُرف كثير من وسائل الإعلام المعارضة لا يمكن أن يموت هؤلاء بوفاة طبيعية نتيجة عارض صحي مفاجئ أو بحادث سير كما يقول النعي. وفي ظل انتشار نزوع تآمري، مذعور وشكاك، لا بد أن وراء كل خبر حكاية غامضة؛ تبدأ بأن الضابط الراحل قد "انتهى دوره" وتصل إلى أن النظام "صفّاه" بأسلوب خفيّ يظهر كموت عادي، أو ضغَط على ذويه كي يتواطؤوا على إخفاء الحقيقة خوفاً.

يحصل هذا تجاه ضباط في مواقع مهمة، مثل وفاة المدير السابق لسجن صيدنايا، العقيد محمود معتوق، بجلطة أصابته وهو نائم في غرفته بالسجن، مطلع 2018، وفي حالات ضباط قليلي التأثير يسمع بهم محرّر الخبر لأول مرة عندما يكتب أنهم "قضوا في ظروف غامضة"، متجاهلاً الأسباب المعلنة من دون مبرر فعلي.

وينطبق هذا على ضباط عاملين كانت وفاتهم مفاجئة بالفعل، وعلى متقاعدين تواترت أخبار أمراض شيخوختهم وصور تهالك أجسادهم منذ سنوات. ويصح على من ماتوا بحادث عارض ومن قُتلوا في المعارك بشكل لا بد منه.

يستند كل ذلك إلى أن النظام "عصابة"، وهو كذلك بالفعل، غير أن لكل عصابة آليات عمل تجب دراستها، فأولاً يتبين من استقراء السيَر المهنية لهؤلاء الضباط أنهم أعضاء صميمون من بنية النظام وقطع فاعلة في دورة ماكينته القاتلة، وليس هناك ما يشير إلى نيّات لهم في فضحه أو الانشقاق عنه أو ما يجعلهم خطراً عليه بأي معنى، مثلهم في ذلك مثل زملائهم الذين سيتابعون خدمتهم في الجيش.

أما من ناحية ثانية فإن جملة "خلص دوره" الشائعة لا تقوم على أي معرفة فعلية بدور الضابط المتوفى وسبب انتهائه، وكثير منهم كان على رأس عمله متفانياً في خدمة سيّده، ولا يوجد مبرر منطقي للتخلص منه بالطريقة المفترضة. وذلك فضلاً عن أن تصفية أي فرد تتطلب فريقاً مهما كان صغيراً، مما يضع "سرّ" مصرعه في متناول مجموعة بالقياس إليه كفرد، مما يعني توسّع رقعة حاملي الأسرار في بلد لا يعرف كيف يحافظ عليها، وتناقلها شفوياً بشكل يجعل الجميع في حالة ترقب لدوره وبحث عن الخلاص بالانشقاق أو التعامل مع الخارج. وليس هذا واقع الحال في آلة النظام التي ما زالت تؤدي دورها ببيروقراطية وتكافل وتنافس وفق تقاليدها المعتادة من دون تغيير.

رمي التكهنات على النظام، بما أن "جسمه لبّيس"، يعفي وسائل الإعلام المعارضة من أن تقوم بدورها في التأكد من الخبر حتى في أعمق البيئات الموالية. هذا صعب بلا شك لكنه مطلوب من مؤسسات شبّت عن الطوق وتتلقى تمويلاً جيداً أو معقولاً

كما أن رمي التكهنات على النظام، بما أن "جسمه لبّيس"، يعفي وسائل الإعلام المعارضة من أن تقوم بدورها في التأكد من الخبر حتى في أعمق البيئات الموالية. هذا صعب بلا شك لكنه مطلوب من مؤسسات شبّت عن الطوق وتتلقى تمويلاً جيداً أو معقولاً. وبالتأكيد ليس البديل المهني عنه هو إقدام أي محرر على صياغة خبر أي وفاة ضابط، ملتقط عن الصفحات الموالية، بطريقة آلية كسولة محيلاً إلى ظروف مجهولة.

يبدأ كل شيء بالمعرفة. وتتراكم المعرفة من رصد ومقاطعة أخبار وحوادث منقولة بشكل مطابق للواقع. ومن هنا يكتسب كل خبر مفرد أهميته من دوره في بناء الصورة العامة، مما يستدعي تدقيقه والتعامل معه بضمير. وإنّ تضافر الأخبار المعجونة بالتعمية والمختلطة بالتهويمات أمر كفيل ببث ضباب داكن يعيق الرؤية ويشوّش التحليل. ولا شك في أننا متفقون على أن هذه حالنا اليوم، مما يؤسس للعدمية في الفعل بعد التشتت في قراءة المشهد.

لا خلاف على أن النظام مجرم، لكن الأسئلة هي عن: أين وكيف ومتى؟ يفيد هذا في معرفته بدرجة تخدم حربنا معه، وفي تحديد المسؤوليات ومراكز القوى والرجال الثقات وطرق العمل، مما يجهز ملفات ذات صدقيّة عند محاكمته التي ستأتي بالتأكيد.