الشيخ أمام الاستمارة الأمنية

2021.10.18 | 07:07 دمشق

1b082e83-6b0d-4dc0-8b3c-2af40ae9b91d.jpeg
+A
حجم الخط
-A

يعرف السوريون أن المعلومات الشخصية التي يكتبونها، حين يتقدمون لوظيفة حكومية، تحط في جهاز مخابرات أو أكثر. وقد كان هذا انطباع شيوخ حلب حين وزّعت مديرية الأوقاف، في مطالع الألفية، استمارة طويلة على منسوبيها من خطباء وأئمة ومدرسين. إذ شاع بينهم أن جهة أمنية تقف وراء الأوراق التي طلبت المديرية، ظاهرياً، ملأها.

البنود الواردة في الاستمارة تكاد تقطع هذا الشك باليقين، فهي أسئلة موسعة تشمل ما لا حاجة لأي جهة إدارية به. فبالإضافة إلى الاسم الكامل واسم الأب والأم وكنيتها، وتاريخ المولد ومكانه، وعنوان الإقامة، تسأل الاستمارة عن اسم الزوجة وعملها، وأسماء الأبناء وأعمارهم، والإخوة والأخوات وأشغالهم، وهل هم أشقاء من الأب والأم أم لا. كما تستفسر عن الوضع الاقتصادي، وطبيعة المورد، والوظيفة الحالية، والأعمال السابقة التي شغلها مالئ الاستمارة. كما تطالبه بذكر أسماء الشيوخ الذين أخذ عنهم، والكتب التي درسها، والأشخاص الذين درسوها معه، والعلماء المعاصرين الذين تأثر بهم، ولماذا؟ والشخصيات الإسلامية، قديماً وحديثاً، التي تأثر بها، ولماذا؟ وعن العلم الشرعي الذي يكثر القراءة فيه، وأسماء أبرز طلابه. وعليه ذكر الشهادات التي يحملها، ومصدرها وتاريخها. والبلاد التي زارها، وسبب السفر، والمدة التي قضاها فيها. ومستواه في اللغة العربية، ومعرفته بأي لغة أخرى، ودرجة إتقانه لها، وأين تعلمها؟ وعن الهوايات التي يمارسها. وأخيراً عن الطريقة التي يدعو بها إلى الله، وإن كان يرى سبيلاً آخر للدعوة غير ما ذكر.

لا تخفي هذه السير الذاتية، بطواعيتها العالية وحذرها المفرط، ما كان يدور في خلد أصحابها وهم يملؤونها بما يليق

كانت تلك فرصة، على أي حال، للشيخ أحمد تيسير كعيّد، المفتش الديني في المديرية، لاستكمال الكتاب الذي كان بصدد تأليفه عن سيَر مشايخ حلب. فإذا كانت ترجمة بارزيهم متاحة، بسبب اشتهارهم وتوافر المعلومات عنهم، فأي فرصة أفضل من هذه لاستنطاق أوسع المعلومات وأوثقها عن شيوخ موزعين هنا وهناك، في جوامع حارات حلب. وبالفعل، بعد أن أتم الشيخ كعيّد تراجم الشيوخ المتوفين، بالاعتماد على الكتب والمرويات، التفت إلى الاستمارات المكدسة في «الذاتية»، ينقل منها مغيّراً صيغة المتكلم/المعترِف إلى الغائب فيصبح النص وصفياً. وحتى في هذا يبدو أن الوقت والعناية لم يسعفاه، فجاءت بعض الاستمارات شبه حرفية، فيما يشفّ أغلبها عن أصله التحقيقي. وقد أخرج كل ذلك جملة في كتابه الكبير «موسوعة الدعاة والأئمة والخطباء في حلب: العصر الحديث»، الذي طبع عام 2008 في جزأين، تحتل التراجم الاستمارية الثاني منهما تقريباً وبعض الأول.

وبدورها، لا تخفي هذه السير الذاتية، بطواعيتها العالية وحذرها المفرط، ما كان يدور في خلد أصحابها وهم يملؤونها بما يليق. وأن نتيجة عدم رضا الأوقاف والجهات المعنية عنها تراوح بين قطع الأرزاق واجتثاث الأعناق.

يبدأ ذلك بذكر العنوان مفصّلاً، ولا ينتهي باختراق العرف الشرقي بذكر اسم الزوجة والبنات والأخوات دون داع وقفي. وهو ما استنكف عنه، مثلاً، شيخ تقليدي مكين وشهير هو محمود حوت حين أجاب: «متزوج ولي خمس بنات... وأربع أخوات».

ثم التعريف الرتيب بالنفس، مدارس وجامعة، مع مرور متكرر على أداء الخدمة العسكرية الإلزامية التي صادفت مشاركة أحد المجيبين في «حرب تشرين التحريرية المجيدة». أما مؤلف الكتاب فيذكر في ترجمته لنفسه أنه «كان ضابطاً في قيادة الفرقة التاسعة، وقد استفاد كثيراً في خدمته تلك، وعرف الحياة بألوانها وأطيافها، وكان سعيداً متفائلاً رغم الصعوبات...». ويصف أحد الشيوخ المترجم لهم بأنه «كان من خيرة الضباط المجندين أخلاقاً، وأدباً، والتزاماً...».

في جواب السؤال عن العلماء المعاصرين الذين تأثرت بهم يتنافس ثلاثة على الصدارة، بدلالة تكرار ذكرهم في الإفادات. وهم محمد النبهان وعبد الله سراج الدين وصهيب الشامي. الأول أحد أبرز شيوخ المدينة في عصره (1900-1974)، ومؤسس المدرسة الشرعية الشهيرة «دار نهضة العلوم الشرعية» (الكلتاوية). وكذلك حال الثاني (1924-2002) الذي أشرف على مدرسة شرعية أخرى هي «معهد التعليم الشرعي» (الشعبانية). أما الثالث فهو مدير الأوقاف زمن إرسال الاستمارات. وتميز بشخصية سلطوية مركبة يمكن أن يقال عنها الكثير، إلا أن أحداً يصعب أن يوافق معدّ الكتاب إذ يقول عن صهيب إنه «رائد النهضة الدينية، والفكرية، والثقافية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين»! أما مزاحمته الشيخين المرجعيين على «التأثير» في المستجوَبين فلا تتعدى تأثيره على وظائفهم. وقد تخلى المعدّ عن حذره وولائه المعلن لمديره حين قال في ترجمة شيخ «شاب طموح»: «نظراً لالتزامه بجميع التعليمات، والتوجيهات، والطلبات التي كانت تطلب منه، وزياراته الدائمة والمتواصلة إلى مديرية الأوقاف، واتخاذه مدير الأوقاف... صهيب الشامي شيخاً، فقد حظي بالقبول، وتمت موافقة مدير الأوقاف على تكليفه بمهام مدير الثانوية الشرعية».

عن الشخصيات الإسلامية التي تأثرت بها لا يندر أن تجد من يجيب بقوله «الصحابة الكرام، والأئمة الأعلام». فإن فصّل بعضهم تجاوزوا ذلك إلى البخاري ومسلم والشيخ أحمد الرفاعي والإمام الغزالي وعبد الوهاب الشعراني وسواهم من مشاهير لا يثيرون المتاعب. ليس في تاريخ الإسلام عالم اسمه ابن تيمية على طول الكتاب وعرضه، متنه وحواشيه...

فيما يغيب الجواب عن الكتب التي قرأتها عموماً. فإن حضر اقتصر على المناهج الدرسية في الثانويات الشرعية أو في كلية الشريعة. وربما تعدى ذلك إلى القرآن الكريم وتفاسيره وحاشية الباجوري وشرح قطر الندى وغيرها من مصادر التراث. وكذلك لا تحظى الهوايات بإجابة على الأغلب. رغم أن أحد الشيوخ قال «قراءة القرآن بصوت حسن»، وآخر كتب «المشي السريع»، وثالث «مديح النبي صلى الله عليه وسلم». أكثر السفر إلى السعودية لأداء الحج والعمرة، أو إلى مصر للامتحان في الأزهر. اللغة الثانية هي الإنكليزية، وقد تعلمها المستجوَبون في المدارس، ومستواهم فيها سيئ. وقد لجأوا إلى ذكر أسماء آمنة ومشتهرة، ما أمكن، لمن زاملوهم في الدراسة، وتجاهل البعض السؤال، وذكر أحدهم من الذين درسوا معه اثنين فقط، بينهما «محمد بهاء الدين من الهند».

الجواب الذي حظي بإجماع لا نظير له فهو عن طريقة الدعوة. فهي «بالحكمة والموعظة الحسنة». لا سيف ولا عصا

فيما كانت غالبية الأجوبة عن الوضع الاقتصادي بأنه متوسط أو دون ذلك لمن يعيش على راتب الأوقاف، وفوق الوسط عند من يكسب رزقه أساساً من مصدر آخر كالتجارة أو الحرف أو العمل لسنوات في الخليج. وتتسم إجابات المستقلين والميسورين بضفاف أوسع وبتحررها النسبي من الخوف والطمع. فالواحد منهم «لا تقيده وظيفة، ولا يُهدد براتب»، كما وصف المؤلف أحد مترجَميه.

أما الجواب الذي حظي بإجماع لا نظير له فهو عن طريقة الدعوة. فهي «بالحكمة والموعظة الحسنة». لا سيف ولا عصا. فإن اجتهد متوسِّع أضاف «الدعوة إلى الله عز وجل ضمن التأييد الكامل لقائد الوطن الدكتور بشار الأسد»، أو قال ثان «أسأل الله أن نبقى في عزة وكرامة نحن ورئيسنا ووطننا».

بعد كل سيرة يعقّب المؤلف برأيه في صاحب الترجمة بجمل لطيفة في الغالب، وزيادة بعض المعلومات التي قد يكون أغفلها صاحبها. وفي مرة واحدة حدّث السيرة بذكر مولود رُزِق به الشيخ «فأصبحوا أربعة ذكور» وأنثى. موضحاً أن الأب يسعى «لتحسين وضعه الفكري والثقافي والديني والمادي، إلا أنه غالباً ما يصاب بالإحباط... فدخله لا يكفيه... ومن أين يأتي بالكتب؟!!». مفسراً بذلك إجابته عن المعاصرين الذين تأثر بهم «لا يوجد»، وعن الأصدقاء «لا يوجد»، وحتى عن العلماء القدامى الذين استفاد منهم «لا يوجد»!