الشرُّ الكامن وصحواتُ الموت السوري

2022.12.28 | 07:03 دمشق

الشرُّ الكامن وصحواتُ الموت السوري
+A
حجم الخط
-A

بات تحديد مفهوم "الشرّ الكامن" في تركيبة الأنظمة الاستبدادية ضرورة حتمية، حتى وإن لم يتمكن من توفير تفسيرٍ مكتمل لأداء فعل ما، كما تقول المفكرة إيف جيرارد. في المقابل يبدو هذا المفهوم أكثر تعقيداً إذا ما تعلّق الأمر بنظام الأسد، فالجانب المخيف في استمرار وجوده، هو أنّ التشوّه الأخلاقي في المجتمع السوري قد بلغ حدّاً من التأزم، يقف فيه السوريون، على سبيل المثال، في أقفاص "مُعدّة لتنظيم توزيع الخبز"!، فيبدون أشبه بقطيع أعمى محشور في هاوية سحيقة، ولا يهتز لهم جفن!

واليوم، مع المعاناة العامة التي تلوك الجميع بنيرانها، ومع ارتفاع نبرة الغضب، يأمل كثيرون لو أنّ هذا السخط يُنتج شرخاً حقيقياً بين النظام وأنصاره، أو بين النظام وبقية الشعب الرازح تحت حكمه. وتبدو ملامح هذا الشرخ واضحة فعلاً، والتي يتمخض عنها يومياً ما سأسميه تجاوزاً بـ "صحوات الموت السوري". لكن السؤال الجوهري يتمحور حول إمكانية قياس مدى فاعلية هذا الصحوات وعمقها وآثارها على المجتمع والنظام، خاصة عندما نراقب ونعايش عن قرب التفسخات والشروخ المجتمعية العميقة، وانعدام الثقة بين الجميع، والخوف من الأسوأ الذي يمكن أن يأتي بديلاً عن الحاضر السيئ أصلاً.

هذه الانتهاكات الصريحة قادت إلى ثورات شعبية، تحركها مطالبات بحكومات يمكن أخيراً أن تنتخبها شعوبها، تحترم حقوق هذه الشعوب، وتخضع لسيادة القانون

قد تفيدنا العودة إلى بداية محرضات القهر قبيل ثورات الربيع العربي. ففي تونس، كان العامل المحفز هو إشعال بائع الفواكه محمد البوعزيزي النار في نفسه، بعد إهانة "روتينية" من قبل الشرطة. في مصر، كان المحفز صور وجه خالد سعيد المشوه، الشاب الذي عُذّب حتى الموت. في سوريا، كان تعذيب أطفال كتبوا على جدران إحدى المدارس شعارات مناهضة للنظام. في ليبيا، كان اعتقال فتحي تربل، محامي ضحايا مذبحة سجن أبو سليم التي وقعت عام 1996. هذه الانتهاكات الصريحة قادت إلى ثورات شعبية، تحركها مطالبات بحكومات يمكن أخيراً أن تنتخبها شعوبها، تحترم حقوق هذه الشعوب، وتخضع لسيادة القانون.

لنعد بدورنا إلى أولى صحوات القهر السورية، لكن بعد عام 2011. ففي 21 فبراير/شباط من عام 2016، وبعد تفجيرين ضخمين طالا حياً موالياً للنظام في حمص، نزل العديد من الشبان الموالين الغاضبين، واعتصموا في أحيائهم وقطعوا الطرق، مطالبين بإقالة المحافظ واللجنة الأمنية. اعتبر كثيرون يومها أنّ ذلك أمر لافت، وحدثٌ يحمل رمزية "عدوى الثورة"، فالاعتصامات في النهاية كانت احتجاجاً على عدم قدرة الحكومة على حماية مواطنيها، وكانت أسلوباً ثورياً للتعبير عن الخوف وانعدام الأمان الذي يعيشه أهل هذه المناطق. لكن تلك الاعتصامات ما لبثت أن توقفت، والأصوات العالية خفتت بعد وعود وتطمينات، تبعتها إقالة بعض الشخصيات الأمنية والعسكرية. استطاع النظام وقتها لملمة الأمر سريعاً، وبدا أنه "اقتتال أهل البيت الذي يمكن احتواؤه"، لكن أسلوب الاحتجاج بقي في ذاكرة كثيرين، لا سيما عند الطرف الآخر المعارض المقهور، كما أنه أعطى إشارة غير مطمئنة للنظام.

واليوم لم تعد التفجيرات ولا فنون الموت المختلفة من يحرّك غضب السوريين. لنكن أكثر تحديداً ونجزم أنّ دموع العجز وحدها من بات يؤثر بهم. وأدلّ مثال على هذا مقطع فيديو غزا مؤخراً مواقع التواصل الاجتماعي، يُظهر صحافية تدعو رجلاً، في مناطق سيطرة النظام، لشراء طبخةٍ فاعتذر عنها مراراً، لكنها ألحّت في دعوته، ما دفع الرجل إلى البكاء بشكل عفوي بعدما سألته إن كان يحب "الشاكرية"، ملخّصاً معاناته بعبارة "الأوضاع صعبة".

يقول أرسطو إن الغاية النهائية للطاغية كي يحتفظ بعرشه هي تدمير روح المواطنين وجعلهم عاجزين عن فعل أي شيء إيجابي. لكن يبدو أنّ طاغية دمشق يفشل في رهانه مجدداً، بعدما راحت الصحوات تتفتح مجدداً بين أبناء حاضنته، ليس بداية بانتشار مقطع فيديو يظهر فيه ناشط محسوب على الطائفة الموالية، يقوم بفضح القصور التي يعيش فيها الأثرياء، بينما يفتقد أبناء الساحل لأدنى مقومات الحياة. معدداً أسماء الأشخاص الذين يتمتعون بغنائم "القهر السوري"، منهم أقارب الأسد وحاشيته وضباط ميليشياته وتجّار الحرب المقرّبين منه. شخصيات معدودة تعيش حياة رفاهية باذخة وتمتلك أحدث السيارات، من خلال تحكمها بعمليات التهريب وتجارة المخدرات والأسلحة، في ظل التغاضي المقصود عن جرائمها. خاتماً كلامه بعبارة "لهم القصور ولكم القبور". والحقيقة لم يتوقف الأمر هنا. فيبدو أنّ سيناريو أطفال درعا يتكرر مجدداً. ففي منطقة كرسانا، وهي إحدى قرى اللاذقية في الريف الشمالي، كُتبت على جدارن مدرسة "كاسر داؤود" عبارات شُتم فيها رأس النظام وحكومته العتيدة، فقام عناصر الأمن بحذفها على الفور وتطويق المدرسة خوفاً من أيّ تحرّك مشابه.

على صعيد موازٍ. متفق عليه عموماً أنّ أكثرية مَن يتولّون مناصب ذات سلطة هائلة في سوريا، هم فاقدون للمبادئ الأخلاقية، يعتمدون خطاباً سياسياً مهندساً وفق نسقٍ ينسجم مع طبيعة أهدافهم ضمن الدولة التي هم فيها، ويحرصون على مواصلة حرف أنظار الجماهير عن شرّهم الكامن، ويوجّهون طموحاتهم الشخصية بما لا يتنافى مع هيكلية السلطة المتاحة لهم. ويبدو أن ثمة من ينحرف عن هذا المسار أحياناً، انحراف أشبه ما يكون بصحوة طارئة. لن يكون آخرها، بالطبع، تعرّض رئيس مجلس الشعب في حكومة النظام "حمودة الصباغ"، لحملةٍ من الانتقادات بعد ردّه على نائب ينتقد الحكومة، يدعى يوسف الناصر. وفي مداخلة له تحت قبة البرلمان، انتقد "الناصر" أداء الحكومة وعجزها عن تقديم أي شيء للمواطن، متسائلاً: "إلى متى سنبقى صابرين على الحكومة؟، حقاً لقد رفعنا العشرة". ليدخل في سجال مع رئيس المجلس، الذي ردّ على الناصر بصفاقة مستفزّة: "أنت بتمثل حالك". ورغم محاولة "الصباغ" مقاطعته لعدة مرات، أكمل النائب مداخلته، رافضاً الحصار الذي تمارسه الحكومة على السوريين، قائلاً: "وين بدنا نروح، وين بدو يروح الشعب، مارح نتهجر نحنا بسبب الحكومة".

 لم يكن ثمة شيء في حياتنا يستحق أن نصحو من أجله، إذن فنحن نعيش أسوأ حالات الموت، وإنّ الحياة الأبدية المجللة بالقهر ستكون أشبه بجحيم!..

في كتاب "دولة الشرّ"، يقول الكاتب جون زافييه، إنّه يحق لكل مُستعبَد أن يقتـل سيّده، واعتماد جميع الوسائل المتاحة لتحقيق تلك الحرية. بالتالي، ينبغي أن يسري هذا المبدأ على النظام السياسي في سوريا. فالجميع لهم حق اقتلاع عرش حاكمٍ شرير، يقمعهم ويسلب حريتهم. وإذا كنّا نعي وجودَ مَظلمة، ولم نحرّك ساكناً لدرئها، فهذا يعني أنّنا راضون عنها وموافقون عليها.  نافل القول إن لم يكن ثمة شيء في حياتنا يستحق أن نصحو من أجله، إذن فنحن نعيش أسوأ حالات الموت، وإنّ الحياة الأبدية المجللة بالقهر ستكون أشبه بجحيم!..

في المقابل، كتب ويكتب كثيرون في صحف ومواقع إلكترونية عن ثورة جوع قادمة، لا هوية سياسية واضحة لها، وقد لا يصمد النظام أمامها ما لم يجد لها حلولاً. ولا نعلم إذا كانت هذه النبوءات قابلة للتحقق قريباً، لكن ما يمكن رؤيته بوضوح على المدى المنظور، هو أنّ هذه الإرهاصات والمناشدات، الأشبه بصحواتِ الموت، ليست سوى قطرات مياه رقيقة جداً وغير متتابعة تسقط على حجر صلد، ليس لها هذا الأثر المشاع المرجو منها اليوم، لكنها قد تحدث تغييراً في زمن ما، إذا ما استمرت، وتتابعت، وتكاثفت، واشتدت، حتى ينشقّ ذاك الحجر.