السوريون الذين لن يبتلعوا دماءهم

2023.01.20 | 06:16 دمشق

السوريون الذين لن يبتلعوا دماءهم
+A
حجم الخط
-A

رغم معرفتي الجيدة باللغة العربية في عوالم الشعر والأدب والثقافة، وجدت كلمة بدت جديدة عليّ وهي "سهم التعقية"، وتفسيرها في المعاجم فيه شرح مسهب له دلالة عميقة، إذ إن الثأر والقصاص عادة متوارثة في ثقافتنا العربية منذ الجاهلية، ورغم أن الأعراف العربية والتقاليد كانت تؤكد حق ذوي القتيل في أن يأخذوا بثأرهم، لكن هناك حالات خاصة تم استثناؤها من هذا الحق بطريقة تبتعد عن فظاظة ما تخفيه من تمييز وإنكار لأصحاب الحق، بحيث إذا كان القتيل من عائلة قوية في القبيلة يباح لأهله القصاص، أو الثأر له من القتلة، أما إذا كان القتيل من عائلة ضعيفة فقيرة بالرجال الأشداء، فإن على هؤلاء أن يتنازلوا عن حقهم بالثأر وقبول الدية.

ولحفظ ماء الوجه وعدم نسف قيم القبيلة وأعرافها في الاعتراف بحق الثأر؛ اخترع العرب حيلة يجتمع من خلالها وجهاء القبيلة وأبناؤها في مكان عام في المضارب؛ ويعلنون قبولهم واعترافهم بما يطلبه ولي الدم سواء بقبول الدية أو الثأر، ويقبل أولياء الدم الدية بغير إرغام ظاهر، بعد أن يكون وسطاء قد دخلوا بين الطرفين وأشاروا إلى ذوي القتيل بعدم قدرتهم على الثأر وضرورة قبول الدية، وللإبقاء على ماء وجوههم وعدم الطعن بشجاعتهم، يقومون يوم اجتماع الناس مع وجهاء القوم في المكان العام بالاحتكام إلى السماء، إذ يرمى بسهم إلى السماء فإن نزل السهم وبه دم فلهم الحق بالثأر، وإن سقط بلا دم يقبل أولياء الدم الدية بصدر رحب، وسمي هذا السهم بـــ "سهم التعقية"، وقد قال ابن العربي "فما رجع هذا السهم قط إلا نقيّاً، ولكنهم لهم في هذا المقال عذر عند الجهال".

ما لا شك فيه أن للقوى الدولية مصالح وغايات لا تنتهي، ولم تكن متفرجة على سوريا بل ضليعة بما يحصل فيها؛ مذ تم طرح  الحل السياسي عندما وصل الثوار إلى أبواب دمشق

وعطفا على مثالنا نفتح باب التساؤل حول الدول والقوى التي تحاول الاضطلاع بالشأن السوري، وغيوم التفاوض التي تلبد سماء أحلام من ثاروا، وتحاول أن تأخذ دور وجهاء القوم الذين يريدون للسوري أن يرمي إلى سماء جاهلة بسهم التعقية، ويقبلون بالدية بقطعة أرض، وينتهي دمنا المسفوح من الشمال إلى الجنوب بـ"تبويس" اللحى والشوارب، وعلبة سردين -كما قال نزار قباني إبان مفاوضات كامب ديفيد-، وما لا شك فيه أن للقوى الدولية مصالح وغايات لا تنتهي، ولم تكن متفرجة على سوريا بل ضليعة بما يحصل فيها؛ مذ تم طرح  الحل السياسي عندما وصل الثوار إلى أبواب دمشق، ولو أن ثوارنا وصلوا أسوار القصر الجمهوري لتدخلت تلك الدول لتنقذ الأسد؛ وتأخذ حصتها من الاضطلاع بحكم سوريا والتحكم في شكل الدولة وربما ديمقراطية المحاصصة التي رسختها أميركا في العراق، ثم خرجت صاغرة وتركته لقمة سائغة بيد إيران، لا يبدو الحديث جديدا لولا أن مواقف الدول قد أخذت مأخذها من أرواح السوريين وأربكت أحلامهم، لكن الأقدار لا تخطئ حظنا ولعلنا نتجه مضطرين إلى حكمة السماء التي قدرت لموسى المهدد بالغرق أن ينجو ويغرق فرعون، وأن يكون مصير القذافي الذي وصف الثوار بأبناء الجحور ووعد بمطاردتهم زنكة زنكة أن يقضي آخر ساعاته هاربا حتى يموت في جحر.

وقد يطعن أحدهم في حديث أنا ننتظر عدالة السماء أو حتمية التاريخ في سقوط أي ظالم، ولكن أليس علينا أن نعيدها سيرتها الأولى حين ثار الشباب ببنادق الصيد والأسلحة البدائية؟ وأي سماء حينذاك كانوا يتضرعون إليها سوى الله وقوة الحق الذي في صدورهم؟ لا شك وبعيدا عن الظروف الموضوعية التي أحاطت بثورتنا كان لعوامل ذاتية مرتبطة بتعلقنا بموازين القوى دور في تغير إخلاص العاملين في هذه الثورة، هل علينا فعلا أن نعيش مرحلة خرس تاريخي لسنوات حتى تصبح الثورة فكرة ممجوجة ولا تلهم الكثير، حتى يلقاها ذوو الحظ من شباب لا يبحثون عمن يصفق لهم ولا عن دول تدفع وأخرى تخذل أو تفاضل بين هذا وذاك؟ تلك أسئلة برسم الشارع، والمثقف والثوري.                

غير أن نظرة إلى الداخل السوري المنهك في مناطق النظام من الجوعى والمشردين كفيلة بأن تجعلنا نفكر أبعد، فهناك الجيل الذي كبر من أبناء الشهداء والمخفيين قسريا والمهجرين، وهناك الآباء المنشغلون الآن بتأمين لقمة عيش أولادهم ولا يعتقد أحد أنهم سيحملون قضية سوى الخبز، وعلينا أن نعترف بأننا بتنا نحمل تصورا طهرانيا عن أنفسنا إذ سبقنا الآخرون في الثورة، ويظهر ذلك في مواقف الكثيرين من أحداث السويداء قبل شهرين، وبات الكثير يقيسها هل هي ثورة خبز أم كرامة، متناسين أن النظام ما كان لينجح في إرباك ثورتنا لولا تعاونه مع كل ميليشيات الحقد الطائفي والمرتزقة ومافيات الجريمة المنظمة ومهربي المخدرات، فهل مازال علينا أن نتعالى على كل صوت ضد هذا النظام الفاسد؟

إن وجود جزء كبير من الشعب السوري تحت هذه المظلمة يعني وبعيدا عن كل أشكال الافتراق حول الموقف من نظام الأسد؛ كفيل بأن يفجر ثورة أخرى

إن هناك عوامل مهمة تنذر بثورة مدنية واستعصاء مربك ورياح عاصفة قد تسقط بيت الأسد، الأسد الذي حفر قبره بيده عبر التدمير والتهجير واقتلاع نصف الشعب من أرضه، إذ إن إحصائية بسيطة لعدد المهجرين في الداخل السوري ( 6 ملايين مهجر) في مناطق النظام تكشف حجم المأساة التي لن تستمر فسيطرة النظام على كثير من المدن والأحياء في كبريات المدن كدمشق وحلب وحماة وحمص واقتلاع أحياء من بلداتها والقوانين التي أصدرها في تغيير الصفة العمرانية لكثير من الأحياء كاليرموك ودرايا ودوما وحمص وحلب، ومحاولته الحثيثة لتحويلها إلى حدائق ومناطق صناعية وخدمية لنسف أي أمل في العودة، إن وجود جزء كبير من الشعب السوري تحت هذه المظلمة يعني وبعيدا عن كل أشكال الافتراق حول الموقف من نظام الأسد؛ كفيل بأن تفجر ثورة أخرى تكتسح سلطة الفساد والإفساد وتكتسح اقتصادا بناه بالفساد حتى تماهى الفساد بالحكم، والحكم الذي يعتمد الفساد يتحول لعصابة تبحث عن رصيدها ورأس مالها الجبان مما ينذر بأن عودة بأي شكل من الأشكال للاجئين والمهجرين وتحت أي عنوان ستولد كتلة أخرى مختلفة عن كتلنا وتمايزاتنا السابقة، وتشكل شارعا عريضا من المتضررين الذين سيزيحون هول الوحش وأذرعه من أعمدة الفساد، وماعلينا سوى القبض على جمر  أوقدناه بصرخات الشهداء والثكالى، ولن يرمي السوري سهم التعقية ولن يبتلع السوريون دماءهم وجراحهم، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.