التحالفُ المُظلم: ثنائية الفساد والفقر

2021.07.21 | 06:43 دمشق

alkarykatwr_althamn_lshhr_ayar_2021tlfzywn_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

وسط واقعٍ ملغمٍ بالتحدياتِ الاجتماعية والاقتصادية، تمخضتْ كوارثُه المتصاعدة عن تكتّلٍ يضمّ نخباً متناغمة إيديولوجياً تتقاسم الثروات فيما بينها، وليس ثمّة دليل شافٍ وقطعيّ على وجود استراتيجيةٍ ناجعةٍ تستهدف حلّ الأزمة المعيشية الراهنة، اعتبر المجلسُ الأطلسي أنّ الاقتصادَ السوري بلغ أسوأ مستوياته منذ العام 2011، وتطرّق إلى استياء السوريين من الوضع الحالي، لا سيّما في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، محذراً: من أنّه "يتعيّن على النظام إرساء توازنٍ بين الاستياء الشعبي وبين المنتفعين من النزاع الذين يبقونه حياً إلى حدّ كبير".

كثير من التصوّرات والمُدركات في بداياتها ما لبثت أن تحوّلت إلى حقيقةٍ واقعة، إذ لم ينهِ سوريّو الداخل سنوات الحرب إلا بعدما انعدمتِ كثيرٌ من الخدمات، وتغيرتْ حياتهم بسبب تردّيها. وإذ شهدت السنواتُ الثلاث الأخيرة على الأقل طوابير طويلة للحصول على أبسط مستلزمات الحياة، فإنّ 2021 تُوّج عام الطوابير الأطول والأكثر قسوة على الإطلاق.

يُضاف إلى الواقع السيئ صعوباتٌ جمّة نتجت عن عشرةِ أعوامٍ من العمليات العسكرية، خلالها تحوّل المجتمعُ بكامله إلى مجتمع حرب

في هذا الوقت قال وزيرُ خارجية النظام في تصريحٍ منفصمٍ عن الواقع المأساوي: "إن الإرهابَ ما زال يمثل أخطر التحديات التي ينبغي لحركة "دول عدم الانحياز" التصدي له"، وأشار إلى أنّ الحربَ شارك فيها إرهابيون من أكثر من مئةِ دولةٍ كأداةٍ لتنفيذِ سياساتها التخريبية، وتحقيقِ أجنداتها الجيو- سياسية على حسابِ أمن واستقرار سوريا ودول المنطقة. لا شكّ إنّ الأمنَ واتفاقيات المصالحات الوطنية شرطان أساسيان لضمان الحدّ الأدنى من الاستقرار في الدول الخارجة حديثاً من مرحلة الأزمات، والنزاعات، والحروب، لكن لا يمكن لهذين الجانبين معالجة المشكلات الجوهرية، كالتضخم، والبطالة، وانخفاض الإنتاج المحلّي، والفقر، ونقص الخدمات الأساسية. لذلك يتبع مرحلةَ ما بعد الأزمة ما يُسمّى بالمرورِ بمرحلةِ التعافي الاقتصادي، وتغيير الهياكل المؤسساتية المترهلة بأخرى خاضعة كلياً إلى المساءلة والمحاسبة في بلاد لا تزال تجرجر ذيولَ حربٍ، وُصفت بأنها الأعنف على مستوى العالم خلال العقود الخمسة الماضية على أقل تقدير، والتي تفاعلت مع مجتمعٍ يعاني بالأساس من التهميش المجتمعي والفساد الاقتصادي فضلاً عن غيابِ الحريات الأساسية. بذلك تُضاف إلى الواقع السيئ صعوباتٌ جمّة نتجت عن عشرةِ أعوامٍ من العمليات العسكرية، خلالها تحوّل المجتمعُ بكامله إلى مجتمع حرب، واتجهت كلُّ علاقاته وبناه لتلائم هذا الواقع الذي ستستمر آثاره، دون أدنى شكّ، إلى ما بعد انتهاء الأزمة.

وخلال سنوات الحرب تحوّل الاقتصادُ السوري إلى اقتصاد نزاع، فجرى تدميرُ موارد البلاد، وتحويلُ المقوّمات الاقتصادية إلى مصادر لاستدامة تطويرِ أموال أثرياء الحرب، والفاسدين، والمنتفعين من الأزمةِ الخانقة. نتيجة لذلك فقدَ مئاتُ آلاف الأشخاص أعمالهم ووظائفهم، ونزح الملايين عن منازلهم، وهُجّر ملايين آخرون خارج سوريا، وانتشرت أعمالُ العنف التي تصبُّ في خدمة النزاع من استغلالٍ، واحتكار، وتهريب، وأعمال غير مشروعة. ونموذج "اقتصاد الحرب" الذي طرحه كثيرٌ من المحلّلين لوصف الوضع الحاليّ في سوريا يُفترض أنْ يُمثّل انفصالاً وانحرافاً عن الديناميّات الاقتصاديّة التي كانت قائمة قبل عام 2011، لكنّ الواقع يؤكد أنّ الصراعَ الحاليّ ساهم في تفاقُم تلك الديناميّات الاقتصاديّة الموجودة سلفاً. ما أدى إلى تعاظمِ السياسات والتوجّهات النيوليبراليّة التي كانت تنتهجها الحكومة السوريّة في فترة ما قبل الحرب، وتعزيزِ جوانب النظام الاستبداديّة الموروثة.

والحقيقة تُقال إنّ الحالَ المتأزم الذي تعيشه سوريا اليوم، يفترض بناءَ مشهدٍ واقعيّ للبدء بتوصيفِ الأزمةِ الاقتصادية وعناوينها. وبصرف النظر عن مفرداتِ الحرب الاقتصادية، والعقوبات، والحصار، إلا أنّ الأزمات لا تُولد إلا بتوافر مقومات ولادتها. ولا نُفشي سراً إن قلنا إنّ الفسادَ المؤسساتي ساهم إلى حدّ كبير في تعميقِ الأزمات التي يعاني منها السوريون أساساً. والعجزُ عن معالجتها مردّه الأول والأخير لغيابِ التخطيط والإرادة الفعالة والمؤثرة خلال فترة وبعيد الحرب، نتيجة جشع التجار وأثرياء الحرب من جهة، ومن جهة أُخرى نتيجة غياب القوانين الصارمة. معطياتٌ كارثية لا شكّ، تجعل من الصعب على المتابع استيعاب هذا التدهور في بلدٍ كان قبل عام 2011 ينتج حتى 85% من أغذيته وأدويته وألبسته وأحذيته، ويصدّر الفائض منها إلى أكثر من ستين دولة حسب مؤشرات الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، والمكتب المركزي السوري للإحصاء.

وبعد أن أصبح قانون قيصر أمراً واقعاً في حياة السوريين، ما انفكّ النظامُ الفاسد يعلّق فشله المزري على شماعة هذا القانون، معتمداً استراتيجية ثابتة تستند إلى "الغموض المتعمّد" حول ما يجري حقيقةً لتضليلِ المواطن المسحوق، الغارق أساساً في دوامةِ البحث اليومي عن لقمة العيش، متغافلاً عن طاعون الفساد واقتصاد الظلّ اللذين يتغلغلان في مؤسساته. ومذ صدّق مجلس الشعب على موازنة 2021 التي لم تزد على 7 مليارات دولار أميركي، في رقمٍ يعتبر أقل من العام السابق بنحو مليارين و400 مليون دولار، تبين أنّ هذه الموازنة استندت في العمق إلى حتميةِ المناورات الشريرة للنظام في محصلاتٍ تبسيطيةٍ مُفرطةٍ في الوضوح وهي: أنّ كوارث اقتصادية لا تعدّ ولا تحصى تنتظر السوريين خلال عام 2021، وفي السنوات اللاحقة أيضاً.

بطبيعة الحال لا يخفى على أحد أنّ الأسد في ولايته الرئاسية الرابعة يواجه وضعاً اقتصادياً أقل ما يقال عنه إنه كارثيٌّ. فبعد عشر سنوات على بدء الحرب، سجل اقتصادُ البلادِ خسائرَ فادحة استنزفت ودمرت أكثر من ثلثي موارده، وتراجع الناتجُ المحلي الذي كان من بين أكثر اقتصاديات الدول النامية تنوعاً إلى أقل من 20 مليار دولار في عام 2019 مثلاً، بعدما سجل زيادةً وصلت حاجز الـ60 مليار دولار عام 2010. ومع استمرارِ الأزمة واستفحالِ الفساد والمحسوبيات في الإدارات الحكومية، ونفوذِ مجموعات أمراء الحرب، وتشديدِ العقوبات الغربية، وتبعات كورونا والجفاف، وخروجِ الثروات الأساسية من سيطرة الدولة السورية يستمر الوضع بالتأزم، فيما يقول برنامجُ الغذاءِ العالمي التابع للأمم المتحدة إنّ 67 % من السوريين بحاجةٍ ماسةٍ إلى مساعداتٍ شهريةٍ لمواجهةِ الجوع، بعدما أصبح الراتبُ الشهري للموظف في سوريا من أقلّ المستويات في العالم.

زيادةَ الأجور المتواضعة لن تعوّضَ الخسارة الناجمة عن الفساد، وتراجع قيمة الليرة، وجنون الأسعار، ولن تنتشلَ العاملين في الدولة من مستنقعِ الفقر والحرمان

وفي بلادٍ تحتل المرتبة (178) عالمياً ضمن قائمة أسوأ الدول في الفساد، ولا تترك خلفها سوى الصومال، تتضاعف أرقامُ ودائع أهم رجالات النظام السوري في البنوكِ العالمية، ويتسع دورُ السوق السوداء برعاية مسؤولين كبار، وأمراء الحرب وتجارها، وتغدو متحكمةً إلى حدّ كبير، ليس فقط في سوقِ القطع الأجنبية، بل في حاجاتِ المواطنين الأساسية. حينذاك يمكن تقديرُ الآلية التي تُنهب من خلالها أموال السوريين وثرواتهم. ويمكن الاستنتاجُ أنّ زيادةَ الأجور المتواضعة لن تعوّضَ الخسارة الناجمة عن الفساد، وتراجع قيمة الليرة، وجنون الأسعار، ولن تنتشلَ العاملين في الدولة من مستنقعِ الفقر والحرمان، فكيف الحال مع العاملين خارج مؤسسات الدولة، وملايين العاطلين عن العمل!. فالبعد الداخلي الذي يتمثل بالفسادِ والمحسوبيات وغيابِ القوانين التي تُجرم العبث بموارد الدولة أو أموالها؟، كذلك غياب الآليات الاقتصادية التي يجب أن تُتبع فيما يعرف باقتصاد الحروب؟، كلّ ذلك يصبُّ بالتوازي مع الإجراءاتِ الخارجية التي تُشكّل مع الداخل معادلةً تعمّق الأزمةَ الاقتصادية في سوريا، وتزيدُ من معاناةِ السوريين.