أوكرانيا ولعنة الجيوسياسة

يعتبر الجيوبولتيك أو الجيوسياسة أحد أهم الحقول المعرفية لتفسير تفاعلات السياسة الدولية والعلاقات بين الدول الفاعلة عالمياً، ودون الخوض في نظرياته العديدة والمتشعبة فإنه يمكننا تقديم تعريف مبسط له، فمصطلح الجيوبولتيك يتكون من كلمتين يونانيتين GEO  وتعني الأرض وPolitic  وتعني سياسة فهو علم يقوم على علاقة جدلية بين الأرض والسياسة، حيث يدرس تأثير السياسة على الحيز الجغرافي في محاولة للاستفادة من ميزاته من أجل التغيير المستقبلي لأبعاد الدولة الجغرافية، وبذلك يتضمن الجيوبولتيك المعطيات الصادرة عن الفواعل السياسية والتي تهدف للسيطرة على مجال جغرافي معين.

وبالنسبة للجغرافيا العالمية لطالما شكلت أوروبا الشرقية محور اهتمام منظري الجيوبولتيك وأصبحت بيت القصيد في كل النظريات التي صيغت بغرض السيطرة على الرقعة الجغرافية العالمية والتحكم بها كنظريات ماكيندر وراتزل وكيلين منذ مطلع القرن العشرين.

وبرزت أوكرانيا التي تعتبر قلب الشرق الأوروبي كأحد أهم المحاور الجيوبولتيكية في الوقت الراهن والتي تشهد ثوراناً متقطعاً وتسخيناً للحرب الباردة الجديدة بين روسيا العائدة من جديد لمسرح السياسة الدولية والكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية التي تسعى للمحافظة على أحادية القطبية العالمية والتفرد بها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينيات القرن الماضي. ولكن لماذا أوكرانيا؟!

جغرافياً تصنف أوكرانيا ضمن الدول العازلة التي تقع بين أوروبا وآسيا وهي أكبر دولة تقع في أوروبا (خارج الاتحاد الأوروبي) وثاني أكبر بلد في أوروبا بعد الجزء الأوروبي من روسيا وهي بلد مهم من ناحية الجغرافية السياسية حيث لديها حدود بطول ٤٥٦٦ كم أكبرها مع روسيا الاتحادية وكذلك تمتد سواحلها على البحر الأسود وبحر آزوف بطول ٢٧٨٢ كم.

وتحتل أوكرانيا موقعا حساسا وفاصلا كبيرا بين روسيا وأوروبا وتشكل الحافة الأكثر غنى جيواستراتيجيا بين الشرق والغرب، وتحمل أكثر من نصف مساحة البوابة الشرقية المؤدية إلى أوروبا كما أنها تمثل قناة التوسع للمجال الحيوي لروسيا، وبناء على ذلك تمثل أوكرانيا حلقة مهمة وإستراتيجية في تواصل روسيا مع العالم وتعمل على فك العزلة عن روسيا وتعزيز وجودها على الساحة الدولية ولذلك فإن خروج أوكرانيا من دائرة النفوذ الروسي سيعمل على انغلاق روسيا جغرافيا وتقليص نفوذها الأوروبي، وهذا ما جعل المفكر الإستراتيجي الروسي (ألكسندر دوغين) يشبه أوكرانيا بالمنطقة الضعيفة (البطن) في جسد دائرة النفوذ الروسي، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتحولها إلى مركز أمني للغرب وباتت أشبه بحصان طروادة غربي في المجال الحيوي الروسي وهذا ما دفع دوغين للتأكيد على ضرورة الحيلولة دون حدوث ذلك، وهذه العقيدة التي تبناها بوتين كما جاء في وثائق الأمن القومي الإستراتيجي الروسي لعام ٢٠٠٢. كما أن الاقتصاد الروسي يعتمد على أوكرانيا من خلال عائدات الغاز، إذ يمر فيها نصف صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، إضافة إلى علاقات ممتدة ومتعددة الجوانب عرقيا وثقافيا بين روسيا وأوكرانيا التي كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفييتي سابقا.

أما الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة فقد انصب اهتمامهم على أوكرانيا للسيطرة عليها وإدخالها ضمن فضاء حلف الأطلسي، ما يسمح للغرب من الاقتراب من روسيا ومنعها من مد نفوذها خارج حدودها، كما أن وجود الغرب في أوكرانيا سيسمح لهم بالتحكم بالبحر الأسود واستثمار موارده من النفط والغاز وتحويل أوكرانيا إلى ممرات إجبارية إلى أسواق روسيا والشرق، وأن الهدف من استمرار أوروبا بعمليات الاندماج والشراكة الأوروبية والأطلسية مع أوكرانيا هو الإطاحة بروسيا، وجعل أوكرانيا كدرع وحصن لأوروبا من التمدد الروسي وإضعاف جدوى الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي الذي تسعى روسيا لجعله يماثل الاتحاد الأوروبي.

هذا ما حول أوكرانيا لمحور جيوبولتيكي هام انعكست أثار الصراع عليه على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلد، إذ عانت أوكرانيا بعد استقلالها عن الاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١ م خصوصا في الفترة ببن عامي (٢٠٠٤ - ٢٠١٤) مجموعة من الأزمات الجيوسياسية والجيواستراتيجية تميزت بكونها مترابطة ومتداخلة بشكل كبير نتجت عن صراع النفوذ بين الولايات المتحدة والغرب من جهة وروسيا من جهة أخرى، كان أولها عام ٢٠٠٤ فيما سمي بالثورة البرتقالية السلمية وما تلاها من استقطابات سياسية داخلية بين التيار الموالي لروسيا بزعامة (فيكتور يانوكوفيتش) والتيار المعارض الموالي للغرب بزعامة (فيكتور ياشينكو) ما أدخل البلاد في أتون اضطرابات سياسية واجتماعية، وعاشت أوكرانيا فترة تمزق داخلي كبير؛ إلى أن أطاحت الانتفاضة الأوكرانية بالرئيس (يانيكوفيتش) الموالي لروسيا عام ٢٠١٤ وكان ذلك إيذانا بخروج أوكرانيا من الفلك الروسي والدخول في الفلك الأوروبي، ما دفع حينها الرئيس الروسي بوتين ومؤيديه باحتلال منطقة القرم وتشكيل حكومة موالية لموسكو وإجراء استفتاء حول مصير الجزيرة وأدى ذلك إلى رفع التصعيد إلى درجات غير مسبوقة مع الغرب الذي رد بزيادة العقوبات على روسيا.

وكان آخر حلقات التوتر بين الطرفين ما حصل في منطقة دونباس في الشرق الأوكراني، وقد أشارت تقارير استخباراتية أميركية إلى نية موسكو التوغل عسكرياً فيها، ما أشعل فتيل أزمة جديدة من التصعيد الدبلوماسي والتحشيد العسكري سواء من الجانب الروسي أو الجانب الأوكراني ومن ورائه حلف الأطلسي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وهكذا تعيش أوكرانيا منذ استقلاها في مسلسل من التصعيد بين الفواعل الدولية بين الفينة والأخرى نتيجة لأهميتها (جيوبولتيكيا)، ما انعكس على حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وجعلها في حالة من الاضطراب شبه الدائم المرهون بحسابات جيرانها الكبار.