أنفاسُ السوريين في تركيا والرأي العام

2021.08.15 | 06:12 دمشق

esnurt.jpg
+A
حجم الخط
-A

ليس عبثاً ولا بشكل عفوي أصبح السوري المقيم في تركيا يراقب تصرفاته ويرصد أنفاسه وتحركاته إذا ما قصد أحد المتنزهات العامة ليتنفس بعد أسبوع عمل شاق، لا تقل فيه ساعات عمله اليومية عن اثنتي عشرة ساعة وبشروط وظروف غير عادلة في غالب الأحيان، أو إذا ما تعطل المصعد في البناء وكان المستخدم هو السوري المستأجر والذي لا يتأخر في دفع الإيجار ساعةً واحدة، أو لو حاول أحد الصبية اليافعين أن يلتقط صورة (سيلفي) لنفسه فوق أحد الجسور الجميلة  ليرسلها لأهله المهجرين على الطرف الآخر من الحدود، أو لو تعثرت سيدة سورية متقدمة في العمر بتلفظ كلمة تركية عند بائع الخضار ويسألها متى تعودون إلى بلادكم. ثمة من يريد زج ملف وجود السوريين في معترك السياسة الداخلية من خلال التأثير في قناعات وسلوكيات جمهور المجتمع التركي المُضيف لذلك يسعى دوماً لصناعة الرأي العام أو التأثير في صياغته من خلال إبراز بعض السلوكيات والقضايا المرتبطة بوجود السوري وحركته المعيشية وسلوكه اليومي وكل ما سنحت الفرصة لخلق ذلك التأثير.

ويشترك في صناعة هذا التأثير بشكل مقصود أصحاب المصلحة من أصحاب النفوذ والأفكار وسياسيين وتنفيذيين تابعين لهم عبر أدوات التواصل المختلفة وعلى رأسها وسائل الإعلام الاجتماعي. ومن أجل إحداث هذا الأثر يتم توظيف عدة عناصر وعلى رأسها القيم المجتمعية الدينية والثقافية والسلوكية والاستفادة من المشاركين بشكل غير مقصود ممن تكون استجابتهم سريعة وعالية من أفراد أتراك وسوريين، حيث يتفاعلون عبر وسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني من دون التحقق من مصداقية وحقيقة الحدث.

بعض أحزاب المعارضة ضمت قضية السوريين إلى مشروعاتها السياسية وملفاتها الدائمة، متناسية الجانب الإنساني والمحاكمة المنطقية لآلية وجود السوريين

بعد أن طالت فترة وجود السوريين في تركيا وبصيغة "الحماية القانونية المؤقتة" أصبحت عملية الاستثمار السياسي في قضية وجودهم واضحة جداً، فلم يعد الأمر مرتبطاً بتجاذبات انتخابية وفي توقيت الاستحقاقات الانتخابية في تركيا، بل تعدى ذلك إلى أن بعض أحزاب المعارضة ضمت قضية السوريين إلى مشروعاتها السياسية وملفاتها الدائمة، متناسية الجانب الإنساني والمحاكمة المنطقية لآلية وجود السوريين ودوافعهم لمغادرة بلادهم مضطرين غير مختارين، وتسعى في كل مناسبة وبشكل مستمر ومنتظم لخلق رأي عام محلي حول قضايا السوريين ولطالما أن الرأي العام نتاج تفاعل مخطط وتتم صياغته باحترافية عالية لكي يبدو للجمهور العام بأنه عفوي وتلقائي وهذا يستفز رأي الجمهور فتصدر عنهم ردود فعل جماعية ويصب ذلك في خدمة تصورات وأهداف مرسومة مسبقاً.

بطبيعة الحال هذا لا يعني أن الرأي العام دائماً مُصنع ولا يحدث بشكل تلقائي وعفوي، ولكن لدى الجهات صاحبة المصلحة الفرصة دوماً للتدخل في صياغة الرأي العام، إما للتوعية والإرشاد أو للتضليل والخداع، ويهتم السياسيون في قضية الرأي العام لمعرفتهم المسبقة بدور هذا الرأي في اتخاذ القرار السياسي، لذلك يسعون جاهدين لعدم ترك الرأي العام لمساره العفوي والطبيعي، ومما ساعد في ذلك الانتشار الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي وإمكانية التفاعل المباشر مما يجعل للرأي الفردي والشخصي دوراً كبيراً في الرأي العام، فاليوم لم تعد وسائل الإعلام التقليدية وحدها مصدر التأثير في الرأي العام، فهناك كثير من المؤثرين وقادة الرأي الذين لديهم ملايين المتابعين على حسابات التواصل الاجتماعي ويحدثون فرقاً حقيقياً في الرأي العام، ولاسيما في قضايا اجتماعية وسلوكية لها حساسيتها الخاصة، والهدف هو الوصول لتحويل الرأي العام لفعل عام، وهذا يقودنا إلى أن كل مهتم بالشأن العام عليه عدم الاستخفاف بالرأي العام وتداعيات صناعته والتدخل به، وباعتبار أن السوريين شركاء بالهم باعتقادي من المفيد أن يكونوا شركاء بالاهتمام أيضاً، فهم جوهر القضية ولهم مساهمة في التأثير بالرأي العام للمجتمع المضيف، وذلك من خلال النشر الدقيق والواعي لحقيقة وجودهم وعدم ترك الفرصة لبناء الرأي العام على مغالطات بعيدة عن الحقيقة، كالامتيازات المزعومة والتي يتمتع بها السوري والتي بات يرددها المغرضون من دون الاستناد لحجة ولا معلومة ويتلقفها المستثمرون السياسيون، وكل من له وجهة نظر معارضة لسياسة الحكومة التركية ويكثفوا النشر والتداول بغرض إحداث المزيد من التأثير في الرأي العام.

الكف عن تأنيب السوريين ولومهم وتوجيه النصائح والتعليمات لهم، لأن الحل ليس لدى هذا السوري الذي يشعر بالقيود تلتف حول عنقه حيث تحرك وكيفما تنفس

لقد مرت كثير من الحوادث والأحداث في إطار العلاقة والاحتكاك بين تركي - سوري، وفي كل حادثة صورة ومغزى وتارة يبدو الشخص السوري معتدياً ومرتكباً للخطأ وتارة أخرى يبدو الشخص التركي كذلك، ونحن هنا لسنا بصدد الحكم بل نحاول توصيف وفهم حقيقة ما يجري، وربما نسلط الضوء على أهمية الرأي العام ودوره في خلق الفعل العام، وكما أنه لا يوجد رأي عام موحد ومتجانس بين جمهور المجتمع التركي المُضيف، وقد لاحظنا كثيراً من الأصوات الأهلية والشعبية التي ترسل الطمأنينة والتخفيف عن السوريين وتوصف ما يجري بأحداث فردية والقانون هو الفصل في هذه الأحداث، وكذلك تصريحات حكومية تحمل نفس المضمون، ولكن مع ذلك كله علينا أن لا نستخف بتنامي هذا النمط من موجات الغضب الجماعي باتجاه المقيمين السوريين، وعلى اعتبارنا لا نملك دور الحكومات والدول والتأثير في قراراتها، فلنذهب إلى أضعف الإيمان، ونشترك بالاهتمام ونكوّن رأياً عاماً سورياً واعياً وهادفاً وموجهاً نحو كل الهيئات والمنظمات التي تدعي تمثيل السوريين من مؤسسة الائتلاف ودوائرها التنفيذية، والمنصات الإعلامية التي تدعي كذلك تمثيل صوت السوريين، وكل منظمات المجتمع المدني التي يمكن أن يكون لها تأثير في محيطها، ودعوة هؤلاء لطرح القضية السورية بشدة وحرارة على منصات الاهتمام المحلي والإقليمي والدولي، والكف عن تأنيب السوريين ولومهم وتوجيه النصائح والتعليمات لهم، لأن الحل ليس لدى هذا السوري الذي يشعر بالقيود تلتف حول عنقه حيث تحرك وكيفما تنفس، الحل في مراكز صنع القرار السياسي الدولي والإقليمي، وعلى الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً في مؤسسات تمثيل السوريين أن يحترموا أنفسهم وينسحبوا من المشهد العام، القضية تحتاج لحلول جذرية ومعالجة الأسباب الحقيقية وراء وجود السوريين بهذه الصيغة وبهذا الكم، وكل ماعدا ذلك مسكنات ومعالجات أعراض المشكلة وليس أسبابها.