أرأيت إلى الجسر كيف كان يهتزّ تحت وقع أقدامنا!؟

2022.05.04 | 06:42 دمشق

thumbnail_alkarykatyr_altas_lshhr_adhar2022.jpg
+A
حجم الخط
-A

كما تفعل عادة الحروب الكبرى والمفصلية في التاريخ، أثارت الحرب الروسية على أوكرانيا كثيراً من الأسئلة. والحرب هذه مفصلية في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين لأسباب عديدة، لعلّ أهمها أنها ترسم ملامح النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب بعد انهيار العالم أحادي القطب الذي توّج إعلانه انسحاب أميركا والناتو المُهين من أفغانستان. لا يمكن التنبّؤ بأنها ستكون الحرب الأخيرة، فهذا تنجيم وليس من العلم أو المعرفة في شيء، لكنها خطيرة إلى جانب كونها مفصلية، فهي الحرب الأولى التي يخوضها الروس غرباً بعد أن استعادوا عافيتهم من انهيار الاتحاد السوفييتي. لقد كانت حربهم في الشيشان – من وجهة نظرهم على الأقل - تدريباً على استعادة الكرامة، وحربهم في جورجيا رسالة تحذير وإعادة تأكيد للخطوط الحمر، ودعمهم للانفصاليّين في الدونباس خطوة متقدمة لمنع الكارثة، وحربهم في سوريا قفزة لتثبيت دعائم الفكر الاستراتيجي الروسي بالقوّة خارج المحيط الحيوي القريب، أما حربهم في أوكرانيا فهي القشّة التي قسمت ظهر النظام العالمي القديم.

قد يطغى تأثيرُ النزعة الرغبوية على رؤية البعض للصراع الدائر في تلك المنطقة من العالم، رغبة البعض برؤية الهزيمة الروسية وانكسار شوكة هذا المارد المتغطرس

قد يطغى تأثيرُ النزعة الرغبوية على رؤية البعض للصراع الدائر في تلك المنطقة من العالم، رغبة البعض برؤية الهزيمة الروسية وانكسار شوكة هذا المارد المتغطرس، وهؤلاء كثر حول العالم، فليس السوريون وحدهم من اكتووا بنيران الأسلحة الروسية، فمعظم شعوب أوروبا الشرقية تستذكر بمرارة حقبة القمع السوفييتية التي كان الروس قادتها وعنوانها الرئيس، وهم بلا شك متخوفون من أطماع الروس في بلادهم.

هناك من يرغب برؤية انتصار الروس الساحق لإذلال الغرب المتعجرف، ولو على حساب دماء الأوكرانيين وحضارتهم وبلادهم، وهؤلاء كثرٌ أيضاً، فهم ينظرون إلى العالم وكأنّه ساحة صراعٍ بين مشروعين كبيرين، أولهما يدعي الديمقراطية والليبرالية ولا يتورع عن هدم الحضارات والدول كما فعل في العراق، وثانيهما يكره ادّعاء المعسكر الأول ويبيّن زيفه ويقدّم بديلاً عنه نظرة قومية شوفينية ممزوجة باستعلاء عرقي وديني محافظ. ومع ذلك، يؤيد هؤلاء المعسكر الثاني لا عن قناعة دائماً برسالته، بل غالباً لمجرد التضاد والكره لمظاهر الزيف والدجل في المعسكر الأول وفي سياسات الدول التي تتبناه.

هناك من يرغب برؤية انتصار الروس الساحق لإذلال الغرب المتعجرف، ولو على حساب دماء الأوكرانيين وحضارتهم وبلادهم، وهؤلاء كثرٌ أيضاً، فهم ينظرون إلى العالم وكأنّه ساحة صراعٍ بين مشروعين كبيرين

ثمّة من يرغبون بأن تشتعل الحروب ليس في أوكرانيا فقط، بل  في القارة العجوز وفي أميركا والعالم كلّه  ، لمجرّد اعتقادهم أنّ هذه الدول لها نصيبٌ كبير من المسؤولية عن اشتعال الحروب في بلادهم، وهؤلاء كثرٌ أيضاً، فمن يجعلون من نظرية المؤامرة ستاراً للتغطية على عجزهم الفكري والحضاري، لا يقبلون إلا أن يستقيلوا من ضرورة العمل والإبداع ليعلّقوا فشلهم على شمّاعة أحقاد الآخرين وأطماعهم.

ثمّة من يرون أنّ الأيديولوجيا وحدها وبالأخصّ منها الأديان من تحرّك الحروب في العالم، وهؤلاء يعتقدون أنّ الحرب في أوكرانيا ستخفف الضغط عن العالم الإسلامي الذي ما فتئ يتلقى الضربات يميناً وشمالاً من الغرب المسيحي.

البعض الآخر يرى في مأساته مقياساً أوحد لكل قضايا الكون، فلا يعالج المشكلات إلا من خلال مطابقتها مع أوجاعه، وينظر أصحاب هذا الاتجاه إلى العلاقات المميزة بين إسرائيل وأوكرانيا مثلاً فيعتبرونها سبباً موجباً لعقاب الأوكرانيين الإلهي على الأصل الأوكراني لكثير من القادة الإسرائيليين، على الرغم من قلّة عدد اليهود الأوكرانيين في إسرائيل بعكس المهاجرين الروس الذين زاد عددهم على مليون مهاجر. كما يرى بعضهم – ومنهم كثيرٌ من السوريين – أنّ العقاب ليس لأوكرانيا فقط، بل لأوروبا التي تركت سوريا وشعبها فريسة لنظام الأسد الدموي وحلفائه الهمج يفعلون بهم الأفاعيل.

يعتبر البعض من أتباع نظريات حلف الممانعة والمقاومة والثرثرة والجعجعة أنّ العم بوتين كالعم سام منقذهم من براثن الصهيونية العالمية، ويشتركون مع بقايا اليسار المتعفّن الذي يرى فيه عدو الرأسمالية المتوحشة والإمبريالية السافرة، فلا يتورعون عن الاصطفاف خلفه رغم معرفتهم بألا قيمة لذلك سوى زيادة سقوطهم الأخلاقي وقلّة الهيبة والاحترام، فلا يستطيع المرء بحالتهم إلا أن يستذكر خطاب النملة للفيل عندما قالت له: أرأيت إلى الجسر كيف كان يهتزّ تحت وقع أقدامنا؟!

يعتبر البعض من أتباع نظريات حلف الممانعة والمقاومة والثرثرة والجعجعة أنّ العم بوتين كالعم سام منقذهم من براثن الصهيونية العالمية، ويشتركون مع بقايا اليسار المتعفّن الذي يرى فيه عدو الرأسمالية المتوحشة والإمبريالية السافرة، فلا يتورعون عن الاصطفاف خلفه

تقول الأخلاق والقيمُ الإنسانية أنّ من حق الأوكرانيين العيش ضمن دولتهم وفي حدود أرضهم باستقلال، ويقول المنطق إنّ من حقّهم اختيار طريقة إدارة بلادهم ومن ضمنها تحالفاتهم التي تحقق مصالحهم العليا، ويقول القانون الدولي إنّ سيادة الدول وحق الشعوب بتقرير مصيرها مصونان. لكن هل تقول السياسة ذلك؟ وهل نرى في الواقع فعلاً ما يشيرُ إليه حقيقة مجسّدة؟ الجواب بالتأكيد هو النفي، فالسيادة والاستقلال والحقوق لا تحددها الأخلاق، ولا القيم، ولا المنطق، ولا القانون الدولي، بل القوّة فقط.

يجد المرءُ من الواجب التعاطف مع الأوكرانيين بصفتهم شعباً يدافع عن أرضه ويقاوم الغزاة المحتلين، ولكن يمكن للمرء أيضاً – بل يجب عليه – أن ينظر للقادمين منهم إلى أرض فلسطين بوصفهم غزاةً محتلين يساعدون نظاماً استيطانياً عنصرياً احتل أرض شعبٍ آخر وهجّره ودمّر مستقبله. يمكن للمرء – بل يجب عليه - أن يدين الاحتلال الروسي لأوكرانيا، ولكن عليه أن يتذكّر أيضاً أنّه ليس جميع الروس بما فيهم الجنود راضين عمّا يفعله رئيسهم وقادتهم، وأنّ أغلبية الشعب الروسي تحبّ الحياة بسلام مثل بقية البشر.

يمكن الجمع بين النقائض في موقف واحد، ومن قال إنّ الحياة أسود وأبيض فقط! لكن يجب أن يعرف المرء أين تقف رغباته وما هي حدودها؟ وأين يكون المنطق وكيف يتجسّد الحق ومتى يبدأ الواجب؟ وإلا سنصبح كالنملة إذ تخاطب الفيل.