متى سترفع القبعات لأردوغان وتقرع له الأجراس؟  

2018.11.21 | 00:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عنوان هذه المقال، كان عنوانَ مقالٍ كتبته في آب 2009، ونشرته صحيفة "الحياة" في 15/8/2009، في صفحة الرأي وقتذئذٍ، كنت أعيش في تركيا، هارباً من وطني، سوريا، ملاحقاً من المخابرات الجويّة التي داهمت منزلي منتصف كانون الأول 2008 لاعتقالي، ولم أكن موجوداً ونجوت من الاعتقال بمحض الصدفة. أثناء وجودي في تركيا، وافقت المفوضيّة الأوروبيّة على منح اللجوء السياسي لي، وكانت تودّ تحويل ملّفي لإحدى الدول الأوروبيّة، ضمن برنامج إعادة التوطين، إلاّ أن السلطات التركيّة كانت ترفض ذلك، بعدم منحها إقامة مؤقّتة لي، واعتباري شخصاً غير مرغوب فيه حينَها، كانت تركيا على علاقات استراتيجيّة؛ سياسيّة، اقتصاديّة، أمنيّة، عسكريّة، وحتى ثقافيّة بالغة القوّة والمتانة والأهميّة مع نظام الأسد الابن.  

وعليه،رفضت السلطات التركيّة منحي إقامة مؤقّتة، تمنح لكل لاجئ عابر، مسجّل لدى الأمم المتحدة، في انتهاك للقانون والاتفاقات الدوليّة ذات الصلة، ولم تراعِ تركيا وضعي ككاتب سوري معارض وملاحق، اعترفت به الأمم المتحدّة. بدليل؛ أنها منحتني الإقامة المؤقّتة، بعد أن رفعت على وزارة الداخليّة والوزير بشير آتالاي، حينذاك، دعوى أمام المحكمة الإداريّة في إسطنبول. وما زلتُ محتفظا ببعض الوثائق التي تؤثّق لتلك السنوات.  

حين كنت مهدداً في سوريا وفي تركيا، لم أبلع صوتي، ولم أهادن، ولم أساوم على قناعاتي، وبقيت مستمرّاً على انتقاد الحكومة التركيّة والنظام السوري

ما أودّ قوله إنه، حين كنت مهدداً في سوريا وفي تركيا، لم أبلع صوتي، ولم أهادن، ولم أساوم على قناعاتي، وبقيت مستمرّاً على انتقاد الحكومة التركيّة والنظام السوري، على حدّ سواء، بحزم وشدّة، في الصحافة التركيّة (راديكال) وفي الصحافة العربيّة (الحياة، المستقبل) وفي المواقع الكرديّة، وفي المقابلات التلفزيونيّة المباشرة، ومن إسطنبول، في حين كان يفترض أن أحمي نفسي، ولا أرمي بها في التهلكة، وأمنحُ ضميري إجازة مفتوحة، لحين خروجي من تركيا...، تجنّباً لعواقب وخيمة، أقلّها شأنا اعتقالي وتسليمي للنظام السوري. والحجج، وقتذاك، كانت كثيرة.  

لم أفعل ذلك، ولم أركن للمساومة على قناعتي وأفكاري، رغم أن مصيري في تركيا من صيف 2009 ولغاية صيف 2010، كان على كفّ عفريت. وكانت استراتيجيتي في الكتابة حينها، وما زالت هكذا، أنني سأكون مدانا أمام التاريخ وأمام نفسي، إذا ساومت على قناعاتي وقايضت انتقاداتي بالحفاظ على سلامة نفسي. 

مناسبة هذا الكلام، وأنا أرى الكثير من الكتّاب والمثقفين السوريين والمصريين والفلسطينيين، الذين يعيشون حياة هانئة ومرفّهة في تركيا، ولا تلاحقهم السلطات التركيّة، ومع ذلك ينزلقون، بشكلٍ متهافت، وأحياناً مبتذل، إلى الدفاع عن النظام التركي والحكومة التركيّة وسياساتها وانتهاكاتها، ليس في تركيا وحسب، (بحجّة أنه شأن داخلي) بل في سوريا أيضاً! بحجّة أن تركيا قدّمت كذا وكذا للاجئين السوريين، وأنها دعمت المعارضة العسكرية والسياسية السورية، إلى آخر هذه المتوالية من المبررات والحجج.  

لدرجة أن البعض صار يعتبر أي انتقاد طفيف للحكومة التركيّة وحزبها الحاكم، على أنه اصطفاف إلى جانب نظام الأسد، ومناهضة للثورة السوريّة! ويتعامى هؤلاء عن حقيقةٍ مفادها؛ أن من ينتهك حقوق مواطنيه الأتراك، عسفاً واعتقالاً وقمعاً، لن يكون محامي دفاع عن حقوق المواطن السوري، داخل تركيا، وداخل سوريا. 

بالعودة إلى المقال السالف الذكر؛ "متى سترفع القبعات لأردوغان وتقرع له الأجراس؟"، المنشور قبل تسع سنوات ونيّف، حيث افتتحه بالقول: "الأوطان بشعوبها، والشعوب بثقافاتها، والثقافة بتنوعها وغناها وثرائها. زمن الحديث عن الثقافات الخالصة، النقية، الخالية من إسهامات وبصمات الآخر، والحديث عن الشعوب السيدة، الرئيسة، والشعوب المرؤوسة، صار من مخلفات الماضي العفن، الذي أكل الدهر عليه وشرب. وتالياً، فكلام محنط من طينة ""تركي واحد يساوي العالم"، "سعيدٌ جداً من يقول: إنني تركي"...الخ، ينظر العصر إليه الآن، بعين الازدراء والتأفف، وإلى الذين لا زالوا يرددونه، بعين السأم والشفقة، لكونهم غدوا مومياءات تعيش في الماضي. 

خمس وثمانون سنة، والأتراك يرددون: "تركيا للأتراك. تركيا، شعبٌ واحد، لغةٌ واحدة...". وخمس وثمانون سنة، وهذه المقولات، التي لا تعكس الحقيقة التاريخية، القومية والإثنية والثقافية المتنوِعة لتركيا، كلفت هذا البلد حروباً ودماء غزيرة. لكن، قوة السلاح، وثقافة الإنكار والإمحاء والصهر والتذويب القومي، لا تحصن الأوطان، ولا تصنع شعوب متمدِّنة. وكذا كان حال تركيا، منذ أن طوت صفحة دولة الخلافة، ودخلت العهد الجمهوري، سنة 1923، وإذا هي ساحة للانتفاضات والثورات الكردية على سياسات القمع والصهر، وللانقلابات العسكرية على دعاة التغيير والديموقراطية.

خمس وثمانون سنة، والأتراك يرددون: "تركيا للأتراك. تركيا، شعبٌ واحد، لغةٌ واحدة...". وخمس وثمانون سنة، وهذه المقولات، التي لا تعكس الحقيقة التاريخية، القومية والإثنية والثقافية المتنوِعة لتركيا، كلفت هذا البلد حروباً ودماء غزيرة

وبعد خمس وعشرين سنة من الكفاح المسلح الكردي في تركيا، بقيادة حزب العمال الكردستاني، وبعد الكثير من مبادرات حسن النية، أبداها الكردستاني، دون أن تكترث بها الحكومات التركية المتعاقبة منذ 15/8/1984، حتى قبل أيام، إلى أن جاء رئيس الوزراء التركي، وزعيم حزب العدالة والتنمية، رجب طيب أردوغان، ليفجِر قنبلته السياسية في البرلمان التركي، في اجتماع الكتلة النيابية لحزبه يوم 10/8/2009.

هذه القنبلة، التي كان تأثيرها السياسي والإعلامي والثقافي والنفسي، أكبر من زلزال بقوة 10 درجات على مقياس رختر، لا زالت هزاته الارتدادية، الشغل الشاغل للرأي العام التركي، ومحط بحث وتحليل ودراسة وتعليق وردود أفعال سياسية وثقافية في قنوات التلفزة التركية، ومادة دسمة لكتاب الأعمدة في الصحافة التركية. ليس آخرها، إصدار 162 مثقفاً وأكاديمياً وصحافياً تركياً بياناً، يعلنون فيه مساندتهم لمشروع أردوغان لحل القضية الكردية". 

واختتمت المقال السالف بالقول: "وبما أن أردوغان نفسه، يعترف بالخطأ الجسيم الناجم عن تأخير حل القضية الكردية في تركيا، ويشير إلى فداحة كلفة ذلك التأخير على تركيا، فعليه أن يتحلى بالمزيد من الجسارة، ويمضي لحل عادل وشامل، وغير منقوص أو ملتبس، يضمن الحقوق القومية والوطنية لأكراد تركيا في الدستور التركي. حينئذ، لن يكون كلامه سحابة صيف عابرة، أنتجتها الضغوط الأميركية والأوروبية. ولن يقول أحد أيضاً: إن كلام أردوغان، كان نتيجة عجز أمام المقاومة الكردية المستمرة لربع قرن.

لا شك في أن إخماد نار حرب دامت ربع قرن، أصعب بكثير من المضي في خوضها لربع قرن آخر. تماماً، كما وصفه أردوغان "إنه مشروع نهضة تركيا". ولن يقوم لهذا المشروع قائمة، إذا لم تقم تركيا بمراجعة نقدية شاملة وصريحة وشفافة وجريئة وجادة، ليس في الملف الكردي فحسب، بل في الملفين الأرمني والقبرصي أيضاً. آن لتركيا أن تضمِد جراحها، وتنفتح على ماضيها الحضاري الموزاييكي الثري، كي تكون قادرة على الانفتاح على المستقبل اللائق بها. وإذا نجح أردوغان في هذه المهمة التاريخية، بالأفعال لا الأقوال، حينئذ، ليس الأكراد وحدهم، بل العرب والفرس والترك والأرمن، وكل العالم، سيرفع له القبعات، حانياً له القامات". 

كل الأفكار الواردة في المقالين، ذهبت أدراج العناد التركي - الكردي المتبادل، والمضي نحو العنف ودوّامات الدم. ونهاية المطاف، لا مناص من انتهاء هذا الصراع، وركون أو جنوح الطرفين إلى السلام

عقب نشر المقال، وفي تلك الفترة بالذات، انطلقت المفاوضات السريّة بين "العمال الكردستاني" والحكومة التركيّة في العاصمة النرويجية أوسلو. تلك المفاوضات التي أفضت إلى انفراجات سياسيّة، متبادلة بين طرفي الصراع، لتتحوّل إلى مفاوضات ثلاثيّة بين أنقرة وأوجلان (سجن إيمرالي) وقيادة الكردستاني (جبال قنديل) عبر حزب الشعوب الديمقراطي! وكنوع من التأييد والدعم لتلك المفاوضات وقتذاك، كتبتُ مقالاً في كانون الثاني 2013، بعنوان "نوبل للسلام تنتظر أردوغان وأوجلان" نشرته صحيفة "الحياة" 11/1/2013 في صفحة الرأي2، وتُرجِم للتركيّة، وتم نشره على نطاق واسع. ذكرت فيه: "بالتأكيد أن لتركيا المصلحة الكبرى في طيّ الملفّ الكردي سلميّاً وبشكل ديموقراطي.

زد أنها ستطوي صفحة صراع دموي بدأ مع نشأة تركيا عام 1923 انتفاضة شيخ سعيد بيران عام 1925، استنزفت هذا البلد وكلّفته مئات المليارات، ومئات الألوف من الضحايا الذين سقطوا في المجازر التي أعقبت الانتفاضات الكرديّة 1925 - 1927 - 1938 وبخاصّة في العقود الثلاثة الأخيرة مع بدء حزب العمال الكردستاني كفاحه المسلّح. وتركيا بهذا تزيل أكبر عقبة من أمام انضمامها للاتحاد الأوروبي. وحكومة العدالة والتنمية تعي وتدرك جيّداً أن المليارات التي تصرف في الصراع العسكري ضدّ الكردستاني، يمكنها أن تفعل الكثير اقتصادياً لو دخلت الخزينة التركيّة.

فوق هذا وذاك، طيّ الملفّ الكردي في تركيا عبر إبرام اتفاق مع الكردستاني، سيجعل الأخير منخرطاً في الجسد السياسي والاقتصادي الوطني التركي. وبالتالي، سيكون المدافع رقم واحد عن مصالح تركيا في سوريا والعراق وإيران والعالم، باعتبار مصالح تركيا من مصالح أكرادها. وتركيا تعي الثقل الجماهيري الوازن للكردستاني في سوريا وإيران وحتّى في العراق أيضاً. وعليه، يجب تشجيع تركيا وحكومتها على السعي نحو السلام مع أكرادها. 

واختتمت المقال بالقول: "هذه الآمال ممكنة ومشروعة، ومعقودة على أردوغان وأوجلان، بالدرجة الأولى. من دون نسيان أن أمراء الحرب، سواء في تركيا أو العمال الكردستاني، سيحاولون التشويش على مرحلة التفاوض بين أنقرة وأوجلان. ويجب ألاّ يسمح أردوغان وأوجلان بأن تلقى مرحلة التفاوض هذه مصير سابقاتها في عهد أوزال ونجم الدين أربكان. من المتوقّع والمأمول من عام 2013 أن يكون سنة الربيع التركي - الكردي الذي طال انتظاره منذ ما يزيد عن ثمانين سنة.

وإذا كانت هنالك رغبة لدى رئيس الحكومة التركيّة رجب طيب أردوعان أن ينهي ولايته بحلّ القضيّة الكرديّة سلميّاً، فإنه يستحقّ بجدارة الجلوس على كرسي رئاسة الجمهوريّة التركيّة، كمؤسسة الجمهوريّة الثانيّة، ويطوي حقبة مصطفى كمال أتاتورك، إلى الأبد. بالتوازي، فإن الزعيمين أردوغان وأوجلان، في حال إنجازهما الحلّ السلمي، ستنتظرهما بالتأكيد نوبل للسلام، مثلما انتظرت إسحق رابين وياسر عرفات، ولو بعد سنوات من الحرب والاقتتال!". 

لكن، وللأسف، كل الأفكار الواردة في المقالين، ذهبتْ أدراج العناد التركي - الكردي المتبادل، والمضي نحو العنف ودوّامات الدم. ونهاية المطاف، لا مناص من انتهاء هذا الصراع، وركون أو جنوح الطرفين إلى السلام، فلماذا كل هذه التضحيات والدماء المراقة؟! 

سبب استحضاري المقالين السالفين، اللذين مضى عليهما سنوات، هو ما أراه من نفخ في الأحقاد والكراهية، بين الشعبين الكردي والتركي، وتأييد وتبرير وشرعنة كل ما تقوله الحكومة التركيّة في ما يخصّ الملفّ الكردي، داخل تركيا وخارجها، من قبل كتّاب وصحافيين سوريين وعرب. فحتى لو جنحت تركيا نحو احتلال اليمن والمغرب، وليس عفرين وإدلب، وشرقي منطقة الفرات، سنجد من الكتّاب والمثقفين العرب، من يقدّم الأعذار والمبررات لذلك، ورفض صفة الاحتلال، وتجميله. 

من الأسف والمرارة، أنني حتى الآن، لم أجد من المثقفين والكتّاب العرب، الذين يعيشون في تركيا، من ينتقدون حكومتها في ما يتعلّق بانتهاكات حقوق الإنسان السوري داخل سوريا، والتي أدانتها منظمات دوليّة! حتّى الآن، لم أسمع من كاتب ومثقف سوري، يعيش في تركيا، يحمّل الحكومة التركيّة مسؤوليّة الفظائع التي تشهدها عفرين، لأن تركيا تدعم تلك الميليشيات والفصائل الإسلاميّة التي تزعم أنها ثارت على نظام الأسد، وتريد تحرير دمشق وحلب ودرعا، من عفرين!؟ لكأنَّ ضحايا عفرين، ليسوا سوريين، وبل ليسوا بشر أيضاً، يستحقون التضامن معهم!؟ 

والحال هذه، من المؤسف القول: إن السؤال الذي طرحته في 15 آب سنة 2009؛ "متى سترفع القبعات لأردوغان وتقرع له الأجراس؟" سيبقى معلّقاً، وبدون إجابة، والمنطقة برّمتها تنزلق أكثر نحو الهاوية، ونحو مستنقعات دماء أبنائها.