فصلٌ دموي جديد ببواعث ومحدّدات قديمة

2019.08.23 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كما كان متوقعاً لدى الجميع، قبيل انعقاد لقاء أستانا الثالث عشر، في مطلع الشهر الحالي، ازدادت حدّة المعارك الجارية في ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي، بالطبع لم يكن التوقع المشار إليه يتكئ على مزيد من المعطيات من جانب أصحاب القرار، بقدر ما يعتمد على القناعة التي بدأت تتعزز في نفوس أغلب الناس عن الهدف الأساسي للنظام وشركائه بالسيطرة الكاملة على كافة الأراضي التي ما تزال بحوزة فصائل المعارضة المسلحة من جهة، وكذلك بماهية مسار أستانا الذي أنتج مفهوم (مناطق خفض التصعيد)، وقد سيطر النظام وحلفاؤه على ثلاث من هذه المناطق، وبقيت واحدة (إدلب) ، فلمَ لا يسعى بوتين بكل ما يملك للسيطرة عليها؟.

لا يمكن حصر مواجع السوريين حول ما يجري في إدلب وشمال حماة، بمأساوية المشهد الذي يقوم على انعدام التكافؤ في موازين القوى العسكرية واستفراد الروس موازاة مع عدم وجود أي رادع دولي أو أخلاقي لوقف القتل والدمار بحق سكان تلك المنطقة، بل ما يزيد المعاناة تعقيداً، والوجع تراكماً، هو عدم القدرة على التحكّم بإرادة المقاومة، ولئن كان من المؤكد أن ما تبديه الفصائل المقاتلة من بسالة وصمود في وجه الإجرام الروسي الأسدي منذ منتصف شهر نيسان الماضي إلى الآن، يجسّد تعبيراً رائعاً للدفاع عن الأرض والديار والأرواح، إلّا أن روعة هذا الموقف تبقى عرضةً للتشظّي، طالما أن إرادة المقاومة محكومة بعاملين اثنين:

الأول: الذي يمسك بقرار المقاومة ويتحكم به ليست إرادة المقاومين فحسب، بل الجهة الإقليمية التي تتحكم بمجمل شرايين الفصائل العسكرية في تلك المنطقة، وبالتالي هي التي تقدّر مقدار الدم الذي يمكن أن يجري في تلك الشرايين، وذلك وفقاً لأولويات تلك الجهة الإقليمية ومصالحها، والتزاماتها أمام الأطراف الدولية، وليس وفقاً لمصالح وأولويات أصحاب الدم والأرض.

الثاني: التباين الإيديولوجي والسياسي القائم بين الفصائل في تلك المنطقة، والذي يصل إلى حدّ التضاد أحياناً، فضلاً عن غياب مظلة عسكرية حقيقية جامعة – تنظيمياً وإدارياً – الأمر الذي يجعل العديد من التسميات (جيش وطني – غرفة عمليات مشتركة إلخ) ليست أكثر من مصطلحات لا يتجاوز تأثيرها حدود التسميات فحسب.

منذ أن انزاح السوريون وأُزيحوا معاً، سياسياً وعسكرياً، عن مساحة التأثير في المشهد السوري في نهاية العام 2012، فقد تغيّر الصراع داخل الجغرافيا السورية، ولم تعد المواجهة قائمة بين شعب ثائر يطالب بالتحرر من الاستعباد، ونظام حكم مستبد ظالم، بل باتت بين أطراف دولية وإقليمية

بالتأكيد ما يجري في إدلب وشمال حماة هو فصل دموي جديد، ولكن بتجلياته المادية المحسوسة فحسب، أمّا بواعثه الجوهرية ومسبباته، فهي وثيقة الصلة بالجذر الحقيقي للمأساة السورية، فمنذ أن انزاح السوريون وأُزيحوا معاً، سياسياً وعسكرياً، عن مساحة التأثير في المشهد السوري في نهاية العام 2012، فقد تغيّر الصراع داخل الجغرافيا السورية، ولم تعد المواجهة قائمة بين شعب ثائر يطالب بالتحرر من الاستعباد، ونظام حكم مستبد ظالم، بل باتت بين أطراف دولية وإقليمية، وقد اتخذت من الأرض السورية مسرحاً لصراع المصالح وليّ الأذرع، وبات على قوى الثورة – آنذاك – إمّا أن تتحوّل إلى أدوات تنفيذية محلية للأطراف المتصارعة (وهذا ما حصل مع قسم كبير منها)، وإمّا أن تنكفئ، أو تغرّد خارج السرب كما يقال.

لقد استطاع الروس أن ينتزعوا من أقرانهم في الصراع، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، المباركة التامة في قتل السوريين منذ قيام صفقة الكيمياوي بين (بوتين وأوباما 2013)، ثم تعززت هذه المباركة في أواخر أيلول 2015 ، حين سكت المجتمع الدولي كاملاً عن استباحة بوتين للدم السوري بأشد أشكال الإجرام قذارةً، وذلك من خلال معادلة للصراع لا يبدو فيها أن واشنطن معنية بما يجري في سوريا، باستثناء ما يمس ربيبتها إسرائيل، وهذا ما أخذه بوتين بعين الاعتبار، إذ أصبح الوسيط والمنسق الميداني بين نظام الأسد وإسرائيل من جهة، وبين إيران وإسرائيل من جهة أخرى.

وعلى الرغم من التغيير الذي طال أشكال الصراع في سوريا، وذلك وفقاً للتغيرات في الأولويات والمصالح، إلّا أن الذي لم يتغيّر حتى الآن هو غياب الرغبة الدولية اللاجمة للعدوان الروسي على الشعب السوري، وهذه الرغبة وحدهم الأمريكان من يتحكم بإيجادها، بما في ذلك العدوان الحالي على جنوب إدلب وشمال حماة، والذي قام به الروس بعلم تام وموافقة من واشنطن، شريطة ألّا يدخل الروس والنظام مدينة إدلب، وهو ما عبر عنه جيمس جيفري في تصريحه لجريدة الشرق الأوسط يوم (10 أيار 2019). وعلى الرغم من مسعى تركيا (الشريك التكتيكي والمؤقت لروسيا) الذي أسهم في عرقلة العدوان حيناً، وتأجيله حيناً آخر، من خلال إبرام اتفاق سوتشي في أيلول 2018 الذي حال دون اجتياح إدلب آنذاك، إلّا أن اتفاق السابع من آب الجاري بين أنقرة وواشنطن حول منطقة شرق الفرات، قد أثار حفيظة الروس، وجدّد شعور الأحقية لديهم بالسيطرة على شرق سوريا الذي يشكل ثلث مساحة سوريا، فضلاً عن توجّسهم من أن أي تقدّم أو تقارب بين واشنطن وأنقرة في الملف السوري، سيكون على حساب المصالح الروسية، ولا أعتقد أن التصعيد الجنوني الروسي الذي استهدف بلدة ( الهبيط) ومن ثم السيطرة عليها، ما بين 7 – 9 من آب الجاري، موازاة مع المفاوضات التركية الأمريكية في أنقرة، كان مصادفة طارئة.

إن استمرار الصراع في سوريا بأشكاله الراهنة وأدواته المعهودة، واستنساخه من منطقة إلى أخرى وفقاً لما يستجد من مصالح وأولويات الأطراف المتصارعة، يراكم في نفوس السوريين مواجع تلو أخرى

إن استمرار الصراع في سوريا بأشكاله الراهنة وأدواته المعهودة، واستنساخه من منطقة إلى أخرى وفقاً لما يستجد من مصالح وأولويات الأطراف المتصارعة، يراكم في نفوس السوريين مواجع تلو أخرى، لعلّ في طليعتها أمرين، يتمثل الأول بشعورهم المحبط نتيجة انزياح وتغييب قضيتهم الجوهرية من صدارة الصراع، وتحوّلهم إلى مجرّد وقود لصراعات لا تخدم مصالحهم الوطنية ولا تلبي تطلعاتهم التي ارتسمت في ملامح ثورتهم أيام بكارتها الأولى، والثاني يتجسّد في قناعتهم التي بدت أكثر نصاعةً بأنّ القوى والكيانات التي تدّعي تمثيلهم، لم تعد تملك من أمرها سوى التماهي مع أطراف الصراع في سيرورته الراهنة، إمّا انسجاماً مع مصالحها التي باتت بمنأى عما يريده السوريون المنحازون للثورة، أو لأن أطراف الصراع نجحت في تحييد هذه الكيانات والقوى، وأفرغتها من أية قدرة على التحكّم في توجيه بوصلتها، ولم يعد أمامها سوى القيام بدور وظيفي لا علاقة لها بأهدافه في غالب الأحيان.

وحيال هذين الأمرين المؤلمين، يرى كثير من السوريين أن عبور المرحلة الراهنة عبوراً سليماً يحافظ على قدرٍ من كرامة السوريين ويوازي تضحياتهم، لا يمكن إلّا من خلال مركبٍ، مركز ثقله هو المشروع الوطني السوري، ومن يتحكّم بتوجيهه هم سوريون مخلصون، ربما يرى البعض صعوبة هذا الأمر قياساً للمعطيات الحالية، فضلاً عن رومانسيته لدى البعض الآخر، ولكن من يراهن على سوى ذلك، كمن يراهن على المعجزات الإلهية.