خلي أبو عموري ينفعكم يا...

2019.09.03 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أريد أن أكتب، هنا على موقع تلفزيون سوريا، بعضَ الأحاديث عن الغناء. ولكنني أخاف من الانتقاد، فبعض الإخوة الثوريين يرون أنه لا يجوز الحديث عن الغناء، أو ممارسته، طالما البلادُ فيها دماءٌ تسيل، وشهداء جميلون يقتلهم ابنُ حافظ الأسد وطغمتُه وأعوانُه بدم بارد.. ويضيفون: يجب أن يسود الحزنُ البلادَ من أقصاها إلى أقصاها، وتُعْقَد مناديلُ الحِداد السوداء على الرؤوس، ولا بأس أن تطلق نساؤنا بعض الولاويل.

نحكي عن الغناء، إِذَنْ، أم لا نحكي؟ نغني أم لا نغني؟ نعزف على الآلات الموسيقية أم لا نعزف؟.. تبدو هذه القضية وهذه الأسئلة ذات طبيعة وطنية، والقضية الوطنية لها ثمن، ولعل بضاعة (أو سلعة) الأوطان هي الأكثر ريعية في العصر الحديث. ثمن القضية الوطنية غير متفق عليه من قَبْلُ، لذا سنفتح المزاد. أُوْنَا، دُوِّي، تْرِيْ. مين عنده زَوْد؟ أنت يا أبو محمود عندك زود؟ أبو إبراهيم؟ أبو شعبان؟ ما حدا عنده زَوْد؟ الله يبارك لك بهذه القضية الوطنية يا حاج أحمد. رسا المزاد عليك. تشوف على وجهها الخير.

هناك حادثة جرت في مدينة إدلب قبل حوالي ثلاثين سنة. ثمة مجموعة شبان كانوا أصدقاء منذ أيام الطفولة، يغلب عليهم حُبُّ المرح. انتسبوا إلى حزب البعث، بعد أن فهموا واستوعبوا لعبة الصعود إلى الأعلى في ظل نظام حافظ الأسد، وتوصلوا إلى كلمة السر السحرية التي تفتح لهم مغاليق أبواب الحظ: الوَلَاء.  

إن التفكير انتهى به إلى فكرة باهرة، نفذها حالاً إذ صعد إلى سطح المنزل، وأغمض عينيه وقال "سأجعل هذه القفزة عربونَ محبة للقائد المفدى"، وألقى بنفسه إلى الزقاق

في النهار كانوا يذهبون إلى حيث توجد رموز نظام الأسد، يعني فرع الحزب، ومقرات المخابرات، وقيادات المنظمات الشعبية، ويعلنون حبهم للقائد التاريخي حافظ الأسد، واستعدادهم للموت في معارك العز والفخار التي يشعلُها ويقودها بنفسه من أجل بناء مجد سوريا ورَفْع اسم الوطن العربي في المحافل الدولية! وأما في السهرة فكانوا يجتمعون من أجل لعب الورق، وتَنَاوُل الأطعمة اللذيذة، وتبادُل النكات، ورواية الحكايات التي تجري أحداثها في النهار.. وكان بينهم تواطؤٌ غير معلن على الغمز من الوضع العام، والسخرية من كل شيء، وحتى تصرفاتُهم الانتهازية نفسها كانوا ينتقدونها من مبدأ (نحن دافنين القتيل سوا).. وذات مرة تحدث أحدُهم قائلاً -بجدية تامة- إنه أمضى ليلة البارحة وهو يفكر في ضرورة عمل شيء يُعَبِّرُ الرفيق البعثي من خلاله عن حبه للقائد؛ يعني شيء عملي غير الحكي الفاضي والخطابات الرنانة.. وقال إن التفكير انتهى به إلى فكرة باهرة، نفذها حالاً إذ صعد إلى سطح المنزل، وأغمض عينيه وقال "سأجعل هذه القفزة عربونَ محبة للقائد المفدى"، وألقى بنفسه إلى الزقاق، وعندما تجمهر الناس حوله، وعرضوا عليه حمله إلى المشفى لإسعافه، رفض، وقال للناس: أنا تقصدت أن أؤذي نفسي إكراماً لقائدي وأنتم تريدون إبعاد الأذى عني؟ لا قرت أعين الجبناء.

أراد أحدُ أصدقائه "المسخرجية" مناكفتَه، فقال له إنه على حق، ولكن إسقاطَ النفس من سطح المنزل عبارة عن تضحية سخيفة، لأن السطح واطئ، وغالباً ما توجد على الأرض أكوامٌ من الرمل الأبيض الناعم مِنْ شأنها أن تقي الإنسان من الأذى، وأما المحبة الحقيقية لهذا القائد التاريخي الكبير فلا يجوز أن تقل عن إلقاء النفس من سطح بناية شاهقة، بعد التأكد من خلو الشارع من أي رمل أبيض ناعم أو قطن أو صوف.. بُهِتَ الرجل عندما سمع هذا الكلام، وقبل أن يتمكن من قول شيء سَدَّدَ الصديقُ المسخرجي سبابته نحوه وقال له: عندك زَوْد؟! وانفلت الجميع بالضحك.

لن أحكي عن الغناء. غيرت رأيي مؤقتاً. حكاية الأصدقاء المرحين الذين صاروا رفاقاً بعثيين تستهويني أكثر، لما فيها من تراجيديا وكوميديا في آن واحد.

وصارت مجموعة الأصدقاء الرفاق تُعرف باسم "شلة أبو عموري"، وما مضى عليهم إلا وقت قصير حتى أصبح كلٌّ منهم مديراً على المؤسسة أو الدائرة الحكومية التي يعمل فيها، وصار يظهر في شوارع إدلب وهو يقود سيارة دائرته واضعاً يده اليسرى في الشباك

فجأةً، لعبتْ حمامةُ السعد لواحد من هؤلاء الأصدقاء/ الرفاق، اسمه "أبو عموري" وبدأ بالصعود السريع. خلال أقل من ستة أشهر صار لـ أبو عموري صولة وجولة في "الشام"، وصار هو المرجع الأساسي لنظام حافظ الأسد في إدلب. وصار يَرفع ويخفض ويُعَيّن ويُسَرّح وينفع ويضر. وصارت مجموعة الأصدقاء الرفاق تُعرف باسم "شلة أبو عموري"، وما مضى عليهم إلا وقت قصير حتى أصبح كلٌّ منهم مديراً على المؤسسة أو الدائرة الحكومية التي يعمل فيها، وصار يظهر في شوارع إدلب وهو يقود سيارة دائرته واضعاً يده اليسرى في الشباك، وزوجته التي عاشت الفقر من يوم أن تعرفت على هذا الكائن تجلس بجواره مرتدية الثياب التي ياما حلمت بارتدائها، وضحكتُها واصلة إلى أذنيها، وبين الحين والآخر تنظر إلى حبيب قلبها نظرة حب وتقول له: يخلي لي إياك حبيبي أنت والقائد، والرفيق أبو عموري..

وفي يوم من الأيام، ودون أي سابق إنذار أو تَوَقُّع، احترقتْ ورقة أبو عموري لدى القيادة. وجرى إعفاؤه من كافة المهام الأمنية الموكلة إليه، وأعفي عناصرُ الشلة المرحة من الوظائف التي أُسْنِدَتْ إليهم، وسُحِبَتْ منهم السيارات، ورجع كل منهم -كما يقولون في الأمثال- إلى خاشوقته القَطْما. وظنوا، وظننا نحن معهم، أن الحكاية وصلت إلى مرحلة الـ توته توته خلصت الحدوته.. ولكن، في ليلة ليلاء، داهمتهم دوريات الأمن، وشحطتهم من بيوتهم، وأُنْزِلُوا إلى القبو، وتعرضوا لضرب لم تتعرض له سلالة الجحاش كلها.. وكان الضابط الذي يضربهم يسمع ولاويلهم وهم يقولون: كرمال الله قولوا لنا أشو القصة؟ فيرد عليهم ضاحكاً: اسألوا أبو عموري.. هو بيعرف أشو القصة!       

وقبل أن يغادرهم توقف والتفت نحوهم بينما العناصر يرفعون أرجلَهم ضمن دواليب التعذيب وقال لهم:

- خلي أبو عموري ينفعكم يا كلاب!