الضحية تحدّق في عيني القاتل

2018.09.16 | 18:48 دمشق

+A
حجم الخط
-A

فوجئ السوريون بمقدار التوحش الذي أظهرته قطاعات واسعة منهم تجاه آخرين، سواء بالممارسة الفعلية أم بالتأييد والاحتفال والتشفي، ولا سيما في حالات استهداف المدنيين، بمن فيهم الأطفال، بأسلحة محرّمة. فشاع التساؤل عن درجة الإجرام التي يمكن أن تصل إليها الطبيعة البشرية.

ومن جهة أخرى طرحت في المجال العام مفاهيم لم تكن رائجة من قبل؛ مثل الاعتراف بحقوق الضحايا والاعتذار منهم أو من ذويهم وجبر الضرر وإحياء الذكرى ومنع الإفلات من العقاب. فصار الاطلاع على تجارب دول أخرى في هذه المجالات هاماً. ومن هنا فإنه من المفيد مشاهدة وثائقيين طويلين صادمين لجوشوا أوبنهايمر.

سافر هذا المخرج الأميركي إلى إندونيسيا لإعداد فيلم عن آثار استخدام الفلاحين لأحد أنواع المبيدات الحشرية، ليكتشف جهله بمذبحة كبرى تمت عام 1965 في هذا البلد وقضت على قرابة مليون إنسان، عندما قوبلت محاولة انقلابية شارك فيها الحزب الشيوعي بانقلاب مضاد أعقبته ملاحقات دموية شاملة لأعضاء الحزب ومناصريه وكثير من المثقفين والنقابيين المستقلين، وعدد كبير من الناس العاديين الذين صاروا عرضة لتصفية حسابات شخصية، ولا سيما المتحدرين منهم من العرق الصيني. بسبب هذه المذبحة تغير مسار أوبنهايمر، فعمل لسنوات حتى أنجز فيلمه The Act of Killing (فعل القتل) 2012، وبعد عامين The Look of Silence (نظرة الصمت). وقد اشتهر الفيلمان على نطاق واسع وحازا جوائز عديدة.

 

فعل القتل

أنور كونجو عجوز الآن، غير أنه كان رجلاً مرعباً أثناء المذبحة، إذ يشيع أنه قضى على حوالي 1000 شخص بيده. لا يخفي كونجو شيئاً عن المخرج الذي استطاع إقناعه بتصوير عمليات القتل التي ارتكبها، مع زملائه في العصابات الرديفة للحكومة، بالطريقة التي يريدونها.

بدا القتلة السابقون مثل مراهقين صاخبين خارجين في رحلة، حين أخذوا يصممون المشاهد ويختارون الملابس. وقد أسهم هذا في تحويل «فعل القتل» إلى «لعبة». يشرح كونجو كيف كان يقتاد ضحاياه إلى أحد الأفنية حيث يعدمهم بسلك تجنباً لتلويث المكان بالدماء، في مشهد استقاه من أفلام المافيا الأميركية.

علاقة كونجو بالسينما وثيقة منذ كان شاباً يبيع بطاقات الأفلام الرائجة في سوق سوداء أمام الصالات. يقول إنه ورفاقه كانوا يفعلون أي شيء وقتها للحصول على المال، لكن المذبحة وفّرت لهم المال والسلطة معاً، فقد أصبح بإمكانهم تخيير الكثيرين بين الدفع أو الموت. أصبح رفاق كونجو في تلك المرحلة مشاهير الآن: صحافي نافذ كان يشوّه صورة المعارضة إعلامياً ويستجوب المتهمين ويدينهم، مهما قالوا، ثم يسلمهم للإعدام؛ أعضاء فاسدون في البرلمان أو مرشحون أقوياء له؛ وزراء ومعاونوهم؛ قادة في «شباب البانكاسيلا». وهي أكبر منظمة شبه عسكرية في البلاد، بملامح فاشية في الشعارات والتحية، وبملابس مرقطة بالأسود والبرتقالي، وبثلاثة ملايين عضو عند تصوير الفيلم، وبأعمال غير مشروعة من تحصيل الإتاوات إلى التهريب والمراهنات، وبغطاء وطني عالي النبرة ورمزية إسلامية خفيفة.

 رغم مرحه الظاهر، وانغماسه في الموسيقا والرقص والكحول، يشكو كونجو قليلاً من الكوابيس. تزوره أرواح من قتلهم، تلك الأعين التي لم يغمضها. سيتطور الأمر أثناء الفيلم، دون تدخل من المخرج، عندما سيشارك كونجو في مشهد إحراق قرية للمتمردين وإبادة أهلها. بعده سيقول: «لم أتوقع أن الأمر بهذه البشاعة... انظر إلى هؤلاء الأطفال؛ سيلعنوننا طوال حياتهم!». وحين سيلعب دور متهم ويتولى أصدقاؤه التحقيق معه وضربه شكلياً ثم إعدامه بالسلك الذي استخدمه، سيطلب وقف التصوير وسيعقّب لاحقاً: «هل شعر الذين قمت بتعذيبهم بما شعرت به؟!». في المشهد الأخير يعود كونجو إلى الفناء الذي قتل فيه ضحاياه، ولكن عجوزاً مثقلاً هذه المرّة. يتأمل المكان ويتقيأ ويخرج ببطء..

 

نظرة الصمت

أثناء عمل أوبنهايمر عن المذبحة تجمّعت لديه شهادات قتَلة شاب تعرّض للتقطيع بشكل وحشي. يهتم أخوه عَدي، المولود بعد مصرع شقيقه بعامين، بهذه التسجيلات، ويلتقي بالفاعلين باحثاً عن مجرد شعور بالندم. ولأجل ذلك يتدرّب على فحص عيون هؤلاء العجائز، وأثناء تبديل العدسات بحثاً عن الأنسب يقود الحديث إلى المجزرة التي ارتكبوها على مدى ثلاثة أشهر في هذه القرية الصغيرة وطالت أكثر من 500 ضحية، بتغطية من الجيش وتحت حماية الشرطة، بزعم أن من قام بذلك مجموعاتٌ من الأهالي اجتاحتهم ردة فعل «عفوية» على ما نُسب إلى الشيوعيين من وحشية وإلحاد وانحلال.

 مع ارتفاع مستوى المسؤولية تزداد حدة الأجوبة، بدءاً من التهرب وحتى التهديد المبطّن: «أنت تسأل أسئلة كثيرة»؛ «كنتُ مجرد حارس للسجناء، وأخبروني أن هؤلاء أناس سيئون»؛ «حسناً... هكذا هي الحياة»؛ «أسئلتك عميقة... لا أحب الأسئلة العميقة!»؛ «أصبح الوقت متأخراً»؛ «ما تفعله الآن قد يعدّ نشاطاً شيوعياً متستراً»؛ «كنت أدافع عن الدولة»؛ «هل تريد أن تنتهي الأمور على خير أم لا؟!»؛ «كان هناك رؤساء فوقنا»؛ «أتريد عائلات الضحايا أن يحصل القتل مجدداً؟! إذا ظللت تفتح مواضيع من الماضي فبالتأكيد سيحصل ذلك!». فيما يقول قائد فرقة القتل في القرية حينها: «إذا لم نشرب من دماء ضحايانا سنجن. لقد جن الكثيرون. طعم دم الإنسان حلو ومالح في الوقت نفسه، أنا أخبرك عن تجربة».

لا يطمح عَدي سوى في الاعتذار، وهو الأمر الذي لن يحصل عليه إلا من اثنتين لم ترتكبا شيئاً في الواقع، هما ابنة أحد الفاعلين وأرملة آخر، بينما يوغل القتلة الحقيقيون في المكابرة والاستهتار والتمثيل الطلق للجريمة وربما الفخر بها.

اللافت في الفيلمين هو مدى الطبيعية التي يبدو عليها القتلة الذين اعتدنا أن ننظر إليهم بوصفهم «وحوشاً بشرية»، مما يحيل إلى فكرة حنة أرندت عن «عادية» الشر أو «تفاهته»، وإلى نصيحة مفتاحية يقولها، في الفيلم الأول، صديقٌ لكونجو، وهو أحد المنتهكين الشهيرين ممن لا يعانون من أي تأنيب ضمير: «القتل أكبر جريمة يمكن أن ترتكبها، ولذلك يجب أن تجد وسيلة لئلا تشعر بالذنب.. يتعلق الأمر كله بإيجاد العذر المناسب».