أخلاق أم قيم أم قوانين؟

2018.08.15 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في تصرّف عفويّ كثيراً ما يحدث في السويد، قامت إلين إيرسون (1) بالامتناع عن الجلوس في مقعدها في الطائرة المغادرة من مطار غوثنبرغ احتجاجاً على ترحيل شابّ أفغاني على نفس الرحلة. أخذ الموقف صدى واسعاً وردود أفعال كثيرة وتفاعل معه ملايين البشر في العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لأنّ إلين كانت تُجري بثّاً مباشراً عبر صفحتها الشخصية على الفيس بوك لما حصل معها خلال مرحلة الاستعداد لإقلاع الطائرة.

وبغض النظر عن تفاصيل الحادثة بما فيها الأسباب الداعية لترحيل اللاجئ وهل كان يستحقّ ذلك باعتباره مجرماً خطراً على أسرته وعلى المجتمع أم إنه إنسان بريء حياته ستكون مهددة بالخطر عند ترحيله، و بغضّ النظر عن تفاعل المسافرين الذي كان بينهم من حاول انتزاع جوّالها من يديها، ومنهم من حاول ثنيها عن موقفها كي لا تتأخر الرحلة ومنهم من ساندها في موقفها وصفّق لها، فإنّ نهاية هذا الموقف جاءت كما جرت العادة حيث ألغى قبطانُ الطائرة الرحلة ليقف بشكل تلقائي أمرُ الترحيل.

يتكرر هذا الأمر في ألمانيا من قبل عدد من المواطنين بدأت تنتظم جهودهم الفردية في جمعيات ومنظّمات مختلفة، وباتت تُطلق على أعمالهم الداعمة لحقوق اللاجئين مصطلحات ذات بعد قانوني فيما يُمكن تسميته: اللجوء إلى المواطنين.

استلهم الألمان الفكرة من الكنديين الذين كانوا يخبئون اللاجئين ممّن استنفدوا فرص القبول القانوني لطلباتهم، لكنّ الألمان وسّعوا من إطار عملهم ونقلوه من الحيّز الفردي إلى الحيّز الجماعي، ونظّموا لأجل ذلك الجمعيات التي بدأت أوّل الأمر في مقاطعة بايرن حيث حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي (CSU-Christlich-Soziale Union in Bayern)) الذي يتزعّمه وزير الداخلية الاتحادي السيد (هورست لورينز زيهوفا Horst Lorenz Seehofer ) المتشدّد كثيراً بشأن قضايا المهاجرين واللاجئين، ثم تعمّم الأمر على بقيّة المقاطعات الألمانية حسب حالات الضرورة التي تستدعي ذلك.

تقوم الفكرة على أن يمنح أفراد هذه الجمعيّات اللاجئين الأفغان – بالدرجة الأولى باعتبارهم الأكثر عرضة للترحيل- المستنفدين لفرص البقاء بشكل قانوني مكاناً للإقامة وأن يؤمّنوا لهم الطعام والشراب وكل الاحتياجات اللازمة للعيش الكريم،

تطوّر مفهوم الدولة في الفكر الحقوقي والسياسي على حدّ سواء منذ نهايات القرن التاسع عشر، وباتت أغلب الدول الأوروبية ومثلها كندا وأستراليا ونيوزلندا تندرج بالتصنيف تحت مفهوم أو مصطلح الدولة الراعية.

لكن دون مستندات أو وثائق رسميّة. يتمثّل الهدف من هذا الأمر بحماية اللاجئين من العسف الذي من الممكن أن يلحق بهم جرّاء إعادتهم إلى أفغانستان، وطبعاً أبدت هذه المنظمات استعدادها للوقوف مع العراقيين والسوريين في حال بدأت بحقّ بعضهم مثل هذه الإجراءات في المستقبل.

لفهم هذه الظاهرة علينا أن نفهم بداية بعض آليات العمل المجتمعي وعلينا أن نفهم دور مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والكيفيّة التلقائيّة لعملها ضمن الأُطر الدستوريّة والقانونية.

لقد تطوّر مفهوم الدولة في الفكر الحقوقي والسياسي على حدّ سواء منذ نهايات القرن التاسع عشر، وباتت أغلب الدول الأوروبية ومثلها كندا وأستراليا ونيوزلندا تندرج بالتصنيف تحت مفهوم أو مصطلح الدولة الراعية، بعكس الولايات المتحدة الأمريكية التي تندرج بالتوصيف تحت مفهوم الدولة الحارسة.

بالدراسة نجد أن مسؤوليات الدولة الراعية كبيرة وتحمل عبئاً هائلاً عن كاهل بقيّة مكوّنات المجتمع أي الأسرة والفرد، وتتقاسم بعض هذه الأعباء مع منظمات المجتمع المدني التي باتت جزءاً من تركيبة النظام المشغّل لهذه الدول والمجتمعات. يستتبع هذا بالضرورة تفرّغ أو وجود الإمكانيّة النظرية والفعليّة لتفرّغ الكثير من الأفراد للعمل الجماعي الذي ينتهي من حيث النتيجة في الحقل الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، من بين الفوارق العمليّة الهائلة بين التصنيفين السابقين مسائل المعونات الاجتماعيّة النابعة من فلسفة وجوب احترام حق جميع البشر بالتمتّع بالحدّ الأدنى من الحياة الإنسانية وبالقيمة المطلقة للكرامة، فنجد أن أي إنسان عاطل عن العمل حتى ولو لم يكن مواطناً في الدولة يحصل على المعونات ذاتها التي يحصل عليها المواطن الحامل لجنسية البلد. إضافة إلى كل ذلك تتلقى الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني دعماً هائلاً من الدولة للمحافظة على نسق الحياة السائد وتعزيزه. بالعكس من ذلك لا تقوم الدولة الحارسة - وأكبر مثال لها الولايات المتحدة الأمريكية- بأيّ شيء من هذا القبيل، فمن ليس يملك ثمن العلاج يموت بأبسط الأمراض ومن ليس لديه عمل ينام تحت الجسور أو في الأنفاق أوفي البنايات المهجورة.

مع ذلك تشمل كلتا الحالتين من الدول المصنّفة ضمن هذين النمطين من الحياة الاجتماعيّة السياسية، قواعد عامّة مرتبطة بمبادئ سيادة القانون ومبادئ الديمقراطيّة والتداول السلمي للسلطة واحترام حقوق الإنسان والحريّات الفرديّة الواسعة كحريّة الاعتقاد والتعبير والتجمّع والتظاهر وغيرها من مميزات هذه الدول التي ناضلت شعوبها كثيراً حتى وصلت إليها عبر تشريعات لا يمكن المساس بها.

يبني هذا كلّه صروحاً من القيم الأخلاقيّة التي تأتي كانعكاس طبيعي لمستويات راقية من التفكير والعمل والممارسة الحقيقيّة للبشر، فلا يمكن أبداً أن نتصوّر أن هذا الأمر يأتي كحالات طارئة أو كطفرات منبتّة عن محيطها منقطعة الجذور أو كقفزة في الهواء لا مستند لانطلاقها ولا لهبوطها.

هذا لا ينفي ولا يعني مُطلقاً أن هذه المجتمعات لا تحتوي شيئاً من العنصريّة أو الانغلاق أو التعصّب أو التمييز بين البشر على أسس غير قابلة للقياس والمقارنة وتتناقض مع القيم والمُثل الإنسانيّة العُليا التي تتجسّد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين الخاصّين بالحقوق السياسية والمدنية وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع ملحقاتها الإضافية وغيرها من المعاهدات والاتفاقيات الدولية لمحاربة التمييز العنصري، لكنّ ما يميّز هذه المجتمعات وجود حرّاس للقيم الإنسانيّة العُليا والمفاهيم المُثلى من داخل المنظومة ذاتها محميّين بالأطر الدستورية والقانونيّة ذاتها المشغّلة للنظام كاملاً، بحيث يصبح وجودهم جزءاً رئيساً منه لا يمكن القفز فوقه أو تجاوزه ولا يمكن تعطيله.

هذا هو بالضبط ما يصنع الفارق بين المجتمعات المحكومة بأنظمة ديمقراطيّة تسمح للقوى المختلفة فيها بالتصارع لتحقيق مصالحها والدفاع عنها مع رعاية كاملة من قبل الدولة،

لو أخذنا مؤسسة الجيش المصري كمُنشئٍ ومشغّل وحارس لمنظومة الاستبداد لوجدنا أنه يكاد يبتلع الدولة، بينما لا يقوم الجيش الأميركي بهذه المهمّة رغم أنّه يعتبر العمود الرئيس لفرض قوّة وسيطرة الأمّة الأمريكية والدولة الأمريكية على مستوى العالم بأكمله.

وبين المجتمعات المحكومة بأنظمة استبداديّة تمنع على بعض القوى الاجتماعيّة أو الاقتصادية أو الفكرية التعبير عن ذاتها والدفاع عن وجودها ومصالحها، مما يؤدي إلى حالات من النموّ المَرضي والاستطالات العشوائيّة للسلوكيات العنيفة أو المتطرّفة أو العنصرية، وتقوم أجهزة الدولة الممسوكة من قبل الحكّام المستبدّين بالضرورة بالانحياز إلى فئات من المجتمع على حساب فئات أخرى.

فلو أخذنا مؤسسة الجيش المصري كمُنشئٍ ومشغّل وحارس لمنظومة الاستبداد لوجدنا أنه يكاد يبتلع الدولة، بينما لا يقوم الجيش الأميركي بهذه المهمّة رغم أنّه يعتبر العمود الرئيس لفرض قوّة وسيطرة الأمّة الأمريكية والدولة الأمريكية على مستوى العالم بأكمله. وفي الحالة الأولى يعمدُ النظامُ المشغّل إلى إضفاء الحصانة المطلقة على أعمال ومشاريع مؤسسات الجيش وبالتالي سلوكيّات قادته من خلال القوانين التي يكرّسها الحكّام الآتون من مؤسسة الجيش ذاتها، بينما في الحالة الثانية يعمد المشرّعون المتمثّلون بالكونغرس إلى محاسبة كبار القادة العسكريين ومراقبة المؤسسة العسكرية كي لا تتجاوز أو تفكّر بتجاوز القانون أو الدستور مجرّد تفكير.

صدر منذ أيام في مصر قانون (تكريم كبار قادة الجيش)، وهو مؤلّف من سبع موادّ لا غير تكرّس فيها السلطة الحاكمة لنفسها امتيازات لا مثيل لها في أية دولة في العالم.

"تنص إحدى مواد القانون أنه لا يجوز مباشرة أي إجراء من إجراءات التحقيق أو اتخاذ أي إجراء قضائي بحق أي من كبار ضباط الجيش بشأن أي فعل ارتُكب خلال فترة تعطيل العمل بالدستور -في إشارة إلى إعلان الانقلاب العسكري يوم 3 يوليو/تموز 2013- وحتى تاريخ بداية ممارسة مجلس النواب الحالي مهامه أثناء تأديتهم مهام مناصبهم أو بسببها، إلا بإذن من المجلس الأعلى للقوات المسلحة." (2)

لا يمكن أن يمرّ أمرٌ كهذا أبداً في دول مثل ألمانيا أو النرويج أو كندا أو السويد، فالمجتمعات في هذه البلدان تمتلك أدواتٍ فعّالة جدّاً لمنع أي انحراف عن القواعد الدستوريّة العامّة التي ارتضتها هذه الشعوب لأنفسها كعقد اجتماعي يحكم الجميع بلا استثناءات ولا امتيازات لفئات على أخرى دون أية استحقاقات أو مبررات منطقية. لذلك سيكون من الطبيعي والمنطقي أن نسمع أو نقرأ أو نشاهد عشرات إن لم نقل مئات الحالات من أمثال إلين إيرسون تتصرّف بعفويّة كاملة وإحساس غامر بالواجب الإنساني، رغم إدراكها التام لما يمكن أن يلحقها من عقوبات جزائيّة قد تصل إلى الحبس ستة أشهر وإلى مطالبات قضائيّة بالتعويض عن العطل والضرر الذي ألحقه فعلها المذكور بشركة الطيران وبغيرها من الركّاب الذين كانوا معها على متن الطائرة.

تعزيزاً لهذه الفكرة المتمثّلة بسيادة القانون قررت المحكمة الإدارية في مدينة "زيغمارينغن" الألمانية إعادة لاجئ أفغاني بعدما أغفلت الهيئة الاتحادية للهجرة واللاجئين دعوى عاجلة سارية ضد قرار ترحيله، و انصاعت لقرارها الحكومة وستتم إعادة هذا اللاجئ الذي تمّ ترحيله إلى أفغانستان بالخطأ قبل استنفاده فرصة الطعن على قرار رفض طلب لجوئه، كذلك اعترف وزير الداخلية ذاته السيد زيهوفا Seehofer بهذا الخطأ وأعلن تحمّل المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين BAMF تكاليف إعادته وتكاليف إقامته في مكان آمن في العاصمة الباكستانية إسلام آباد تحت إشراف وزارة الخارجيّة الألمانية حتى يتمّ نقله مجدداً إلى ألمانيا لاستكمال إجراءات النظر في الطعن المقدم من قبله.(3)

هنا تكمن حيويّة الإنسان كجزء من حيويّة مجتمعٍات مُنتجة للقيم والمفاهيم الصاعدة باستمرار على سلّم التحضّر والمدنية والإنسانيّة بحماية وحراسة الدساتير والقوانين وبتفاعل نشطٍ من الناس أنفسهم.

ولكي نمتلك البيئة المناسبة التي أنتجت شجاعة إلين إيرسون وسيادة دستور كسيادة الدستور الألماني ونفاذ قرارات قضاء كالقضاء الألماني، علينا أن نناضل بوعي وصبرٍ وجلدٍ وإصرار بلا حدود.

شواهد الاقتباس:

  1. إلين إيرسون
  2. الجزيرة نت
  3. موقع صحيفة دويتشه فله DW