13 نيسان 1975... ودخل أبي حاملاً السيمينوف

2019.04.13 | 21:43 دمشق

+A
حجم الخط
-A

هناك، في الضاحية الشرقية لبيروت، في حيّ "النبعة" عام 1975، وكان عمري ثماني سنوات، أقضي جلّ نهاراتي بصحبة فتيان الحيّ شغباً ولعباً، أثناء عطلة الربيع المدرسية، لم أدرِ ما حدث بعد ظهر 13 من نيسان. لكن أتذكر أن الأمهات خرجن هكذا إلى الشوارع أو وقفن على الشرفات، ورحن يلملمن أولادهن بلهفة، فيما الآباء بدأوا يعودون على نحو أبكر من المعتاد من أعمالهم.

دبيب الناس وإيقاع حركاتهم، ومرور السيارات مسرعة، وإقفال الدكاكين على عجل، وارتفاع أصوات الراديو من كل مكان، أشعرني أن أمراً بالغ الأهمية يحدث في العالم. لم أفهم من أحاديث الأمهات اللواتي ربضن عند مدخل البناية، جامعات أطفالهن حولهن، إلا كلمات قليلة، من نوع "حادثة البوسطة" (باص، بالعامية اللبنانية)، رصاص، الفلسطينيون، الكتائب. ويومها سمعت لأول مرة بـ "عين الرمانة"، مكان ما قرب بيروت.

ظللت طوال ذاك النهار ومسائه مندهشاً كيف يمكن لحادثة بوسطة أن يسبب كل هذا الاضطراب. ففي ظني أن كلمة "حادثة" كانت تعني اصطدام سيارات وحسب. كنت أعرف أن "الفلسطينيين" هم "الفدائيون" الذين يحبهم أبي. أما "الكتائب" فهم ذاك البيت القديم المجاور لكنيسة السيدة، الذي كلما مررت بالقرب منه قرأت تلقائياً تلك الكلمات الثلاث: الله، الوطن، العائلة. أمر يشبه كلمات المدرسة وكتبها.

كنت أستأنس الجلوس الصباحي ملاصقاً أبي وهو يقرأ الجريدة. ورأيت صورة البوسطة وزجاجها الأمامي الممزق بثقوب الرصاص. قرأت رقم القتلى والجرحى. وتذكرت حينها المرة الأولى التي اصطحبني أبي إلى المقهى، وجلست بجانبه أنظر إلى الجريدة، وفيها صورة صواريخ سام 7 (عرفت لاحقاً أنها تعود إلى أيام حرب تشرين 1973).

بعد أيام قليلة، دخل أبي المنزل، مزهواً وهو يحمل بندقية من نوع سيمينوف. طويلة جداً ومزودة بحربة أسفل السبطانة. كانت ملفوفة بحرام، حين أخرجها واستعرضها أمامي. قال شيئاً يشبه عبارة "سنقتل أولئك الأغنياء الكلاب"

بعد أيام قليلة، دخل أبي المنزل، مزهواً وهو يحمل بندقية من نوع سيمينوف. طويلة جداً ومزودة بحربة أسفل السبطانة. كانت ملفوفة بحرام، حين أخرجها واستعرضها أمامي. قال شيئاً يشبه عبارة "سنقتل أولئك الأغنياء الكلاب". كانت أمي غير مبالية تقريباً، صامتة، فيما أخي يتحسس ملمس البندقية اللامعة، وأختي الصغيرة بالكاد تفهم ما يجري حولها. كان شعوري لحظتها أن أبي أضاف شيئاً ثميناً لمقتنيات البيت، نحن العائلة المدقعة بفقرها، لأب يعمل سائق شاحنات نقل.

كان الحيّ مسكوناً بأناس لا عد لتنوعهم واختلاف منابتهم وأصولهم، لكن يجمعهم الفقر وذاك التحفز العميق للانتماء إلى بيروت، المدينة وحياتها ووعودها الخلابة. في بنايتنا، ومقابل بابنا يسكن "أبو جان". مسيحي أرثوذكسي من شمال لبنان، رب أسرة من سبعة أطفال، والعامل في أحد المصانع. وبجانبه شقة أبو مهدي الشيعي الآتي من جرود بعلبك – الهرمل وأولاده الأربعة، الذي يشتغل في صب المعادن. وما أذكره عائلة أبو خالد الكردية الآتية من تركيا. وفي الطابق الأخير أبو ميشال، المسيحي الماورني وابنه الوحيد وزوجته الدائمة التأنق، سائق التاكسي الذي يحمل "البون بون" دوماً في جيبه. في البناية الملاصقة أبو مارون المسيحي الآتي من الدامور، وأولاده الشبان الذين وضعوا علم الكتائب على نافذة منزلهم. أذكر أيضاً أبو صلاح من البقاع، العتال في مرفأ بيروت. أم حنا الأرملة وابنها "المجنون" الذي دهسته شاحنة وظل حياً، يقضي نهاره جالساً على الكرسي في الشارع يكر "كبكوب" صوف ويضع عود كبريت في فمه مقلداً حركة المدخنين، صائحاً بين الفينة والأخرى "عائشة.. عائشة" ابنة أبو خالد الكردي، متيماً بعشقها. أذكر أيضاً عائلة حلبية كانت تبيع حلويات الملبن والفاكهة المجففة. أيضاً، العائلة القبطية التي كان ولدها يضحكنا كلما تكلم بتلك اللهجة المصرية. نسيت كنية العائلة الدرزية التي تسكن فوق بيت أم حنا، الذين لا يكلمون أحداً تقريباً ويملكون سيارة أميركية تدل على حال أرقى من أحوال بقية السكان. ثم تلك العائلة الإيرانية الغامضة ببناتها الثلاث الساحرات. والأغرب هي أم الياس التي تأتي لأمي بالأطعمة، كما كانت العادة بين ربات البيوت، وكنا نعرف خبلها إذ كانت تكوي باستمرار "الكلسات" (الجوارب) والألبسة الداخلية لابنها المتوفي منذ زمن. تخرجها من الخزانة كل مرة وتغسلها وتعيد كيّها.. إلى أن سقطت أول قذيفة على النبعة: أصابت منزلها ومزقتها أشلاء.

وكنا نعرف خبلها إذ كانت تكوي باستمرار "الكلسات" (الجوارب) والألبسة الداخلية لابنها المتوفي منذ زمن. تخرجها من الخزانة كل مرة وتغسلها وتعيد كيّها.. إلى أن سقطت أول قذيفة على النبعة: أصابت منزلها ومزقتها أشلاء

أغرب تلك البيوت ذاك المهجور الذي تظلله شجرة النخيل. مسكن الجنيات والعفاريت، الذي كنا نركض تلقائياً ما إن نحاذيه.

بعد 13 من نيسان يأيام قليلة، بدأت تحيط بالنبعة أصوات الرصاص. اختفى أبو مارون وعائلته. اختفت العائلة الإيرانية. قام أبو مهدي بعد مقتل ابن أخيه، بخطف جاره أبو ميشال وقتله.. توالى على مدى أسابيع مشهد العائلات التي تأتي بشاحنات صغيرة (بيك آب) لتحمل عفشها وتغادر.

تحولت مدرستي إلى "مركز" – هكذا راحوا يسمونها - يجلس أمامها مسلحون. قلت إنهم "الفدائيون" لأني أعرفهم من الكوفيات. أبو حسين، جارنا الجنوبي (من قرية حولة على ما أظن) الذي كان يعمل في مخمر الموز، كان يقف معهم حاملاً الكلاشينكوف. قال لي أبي "إنه شيوعي". شرح لي أن الشيوعيين مع الفقراء لكنهم لا يؤمنون بالله. ولم أستوعب هذه الفكرة، لأني كنت أظن أن الله هو أيضاً مع الفقراء.

وفي ذاك الصباح، بعد "الترويقة"، يأتي رفاق أبي وهم بكامل أسلحتهم فيخرج حاملاً السيمينوف ويغادرون إلى هناك حيث المعارك في منطقة "ظهر الجمل"

بعد أيام، صار الرصاص يصل إلى مفترق الطريق العلوي الفاصل بين النبعة وسن الفيل. أزّت رصاصات فوق رأسينا، أنا وأبي، عندما كنا عائدين من الفرن نحمل مناقيش الزعتر. وفي ذاك الصباح، بعد "الترويقة"، يأتي رفاق أبي وهم بكامل أسلحتهم فيخرج حاملاً السيمينوف ويغادرون إلى هناك حيث المعارك في منطقة "ظهر الجمل".

في ذاك الوقت، كان مجتمع النبعة قد تمزق كلياً. انتهى ذاك الاجتماع النادر للمنابت والأصول والجنسيات والطوائف، لأناس أتوا قسراً أو اضطراراً أو طوعاً بحثاً عن نصيبهم من الوعود الخلابة لبيروت الستينات والسبعينات وللبنان "الاستثناء" عيشاً وثقافة ونمط حياة على شبهة بالسينما والشعر. انتهى ذاك الاختلاط العجائبي لفقراء وصلوا إلى تخوم عاصمة متلألئة، كان أبي يمنحنا في الكثير من الأمسيات نزهة بسيارته المرسيدس 190 لـ "نتفرج" عليها: الروشة والحمرا ومنطقة الفنادق وساحة البرج.. عاصمة كانت بالنسبة لسكان تلك الضواحي فرجة حيّة، مفعمة بالسحر وممتنعة عنهم.

خرج أبي مع رفاقه ذاك اليوم، وعاد قتيلاً. وكان علي بعد سنوات قليلة أن أرث تلك البندقية والحرب كلها.