يوم تصدى أدباءُ إدلب للإمبريالية

2019.12.02 | 16:14 دمشق

capitalism_socialism_thumb.png
+A
حجم الخط
-A

قرأ أحدُ الأصدقاء بِضْعَ المقالات التي حكيتُ فيها عن المُخبر الإدلبي أبي فستوك الذي كان يذيقنا المُرَّ والعلقم، وسألني عن سبب تجنبي ذكرَ اسمِه الحقيقي، مع أنه معروف لدى جميع المهتمين بالشأن الثقافي السوري، حتى في المحافظات الأخرى.

قلت له: ببساطة، تجنبتُ ذكر اسمه لأنه، في الأساس، لا يمتلكُ خصلة إنسانية حميدة واحدة تشجع المرءَ على تناولِه شخصياً، فلا هو متعلم، ولا هو مثقف، ولا هو مبدع، ولا هو ذو تجارب حياتية قَيِّمة، ولا هو محترم، وفوق هذا كله طبيعتُه عقربية، يمشي بالوَرْب رافعاً إبرته السامة إلى الأعلى، ويلسع كُلَّ مَنْ يأتي في طريقه.. وأنا عمدتُ إلى سرد فصولٍ من سيرته لكي أضيء من خلالها جانباً خطيراً من جوانب استبدادِ نظام حافظ الأسد، أعني استبدادَه بالوسط الأدبي. 

تجدر الإشارة هنا إلى أن الطرافة موجودة في سيرة أبي فستوك، وليس فيه شخصياً، فهو ثقيل الظل، كلامُه مضطرب

السبب الثاني الذي دفعني للاستغراق في سيرته هو: الطرافة. تجدر الإشارة هنا إلى أن الطرافة موجودة في سيرة أبي فستوك، وليس فيه شخصياً، فهو ثقيل الظل، كلامُه مضطرب و(مفشكل)، وتنكيتُه أصعب من اللطم على المناخير. نظراتُه، حينما يكون في مجلس، لا تستقر في مكان معين، لديه وسواس قهري متسلط يجعلُه يُجْهِدُ نفسه في اقتلاع شعرة يتوهم وجودَها على خده الأيمن، وتتوقف إصبعاه المنشغلتان باقتلاع الشعرة المتوهمة عن العمل عندما تردُ في حديث أحد الموجودين في الجلسة جملةٌ يمكنه الاستفادة منها في تقرير أمني مستعجل.

ومن الجوانب الطريفة الأخرى الموجودة في شخصية أبي فستوك أنه لا يكتفي عندما يلتقط جملةً ذات شبهة أمنية بتدوين الجملة وحدها، بل يعتمدُ ما يسمونه بلغة الصحافة الـ (Background)، فيضيف عليها تفاصيلَ وشروحاتٍ إضافيةً، يتناولُ بها الشخصَ (الضحية) من يوم أن قالت الداية لوالدته "مبارك ما إجاكي"، وحتى تاريخ إعداد هذا التقرير، متتبعاً ظلالَ الشبهات الأمنية الموجودة في أسرته، كأن يكون لديه أخ أو عم أو خال منظم في الإخوان المسلمين، أو حتى متعاطف معهم، أو شوعي (يقصد: شيوعي)، أو ناصري من جماعة الأتاسي أو الجَرَّاح، أو بعثي يميني "من بعث العراق".. وهكذا حتى يصبح تقريره -على حد تعبير أستاذنا الراحل حسيب كيالي- أكبر من ملحفة اللحاف!

روى لنا أحدُ المقربين من أبي فستوك أنه كان، عندما ينتهي من كتابة التقرير، يشعر بالارتياح، والزهو، مثل فنان انتهى من إنجاز لوحة عظيمة، أو روائي اهتدى إلى قفلة جميلة بعدما كانت الرواية (معصلجة) معه في فصلها الأخير، وفي اليوم نفسه، أو على الأكثر في اليوم التالي، يحمل التقرير ويذهب إلى فرع الأمن العسكري الذي أصبح مختصاً بقطاع الأدب والثقافة في إدلب، بسبب صداقة أبي فستوك الشخصية مع رئيس الفرع، كما ذكرتُ لكم في إضاءة سابقاً.

حضراتكم تعرفون أن السوريين بارعون في ابتكار العبارات والمصطلحات التي تعبر بإيجاز شديد عن طبيعة بشرية ما، كقولهم عن الرجل الزكرتي القبضاي (فلان أخلاقُه ضيقة، ما بيتحمل أَخْدْ ورَدّ، إيدُه والضربْ!)، يعني أنه قد يضربك بالبوكس لمجرد أن تقول له "صباح الخير".. وفي كثير من الأحيان يلجؤون إلى الاختزال الشديد فيقولون "فلان إيدُه والضربْ".. هذه العبارة أطلقناها نحن أدباء إدلب على أبي فستوك، مع بعض التحوير، إذ كنا نقول لمن يسألُنا عنه: ما بيعرفْ في الإخْبَارْ لومةْ لائمْ.. إيْدُه والتقرير!

ذات مرة، في سنة 2005، بعد اغتيال رفيق الحريري، وطَرْدِ قوات جيشنا العربي السوري الباسل من لبنان، وشعور نظام الأسد بالخطر نتيجة بعض التهديدات الأميركية، حاولَتْ بعضُ أجهزة النظام أن تُظْهِرَ للناس، وبالأخص للمثقفين (من أمثال حَظَرَاتِنَا)، وجهاً بشوشاً، وزَعَمَ بعضُ رجال السلطة أنهم يرغبون في فتح صفحة جديدة معنا نحن الأدباء، رغم أنهم كانوا، قبل هذا، قد (نشروا عِرْضَنا على بَلَّانة) بسبب توقيعنا على "بيان الألف"، وصاروا يقولون لنا ما معناه أننا وإياهم، يجب أن نكون في خندق واحد ضد التهديدات الخارجية القادمة من المعسكر الإمبريالي! وإن كنا نحنُ قد تحاقرنا – بتوقيعنا البيان- وهم ردوا صاعَ حقارتنا صاعين، فيا سيدي، المسامح كريم، وعفا الله عما مضى، وصاروا، كلما التقوا بنا في الأماكن الثقافية العامة يباشرون بمديحنا.. وأنتم تعلمون أن المديح الذي يُطْلقه الرفاق المناضلون الأشاوس أشبهُ ما يكون بالذم.. وفي ذات مرة استلمنا أحدُهم خلالَ حضورنا ندوةً ثقافية وقال، بلغة الراوي العليم:

- صدقوني يا رفاق عندنا في محافظة إدلب كتاب فحولْ (يعني: تيوس)! من دون يمين لما بيكتبوا بـ (... الطَحْطَحْ).. صحيح أنهم وَقَّعوا على بيانْ الألف تبع المجتمع المدني، لكن أنا بأكدْ لكم أنهم ما كانوا بيعرفوا إنه محتواه بيسيء للقائد الخالد (يعني: وقعنا ونحن لا نعرف.. لأننا أغبياء وسذج!)، وعلى كل حال، هاد شي مضى وراح، والحمد لله الآن هم معنا في نفس الخندق، وكل بيانات العالم على قفا كندرتهم!

بعدما انتهى هذا المسؤول من مديحنا أخرج من جيبه كومة من البطاقات التي كتب عليها اسمه ووزعها علينا راجياً إيانا ألا نتردد في الاتصال به في أي وقت كان، وهو كفيل بأن يرد علينا حتى ولو كان (نايمْ مع مَرْتُه)، وذلك تطبيقاً لمبدأ الخندق الواحد والتصدي للإمبريالية التي حكى عنها!

روى لنا أحدُ المقربين من أبي فستوك أنه كان، عندما ينتهي من كتابة التقرير، يشعر بالارتياح، والزهو، مثل فنان انتهى من إنجاز لوحة عظيمة

بعد نحو أسبوع من هذه الجلسة العجيبة، اتصل مدير مكتبه، ودعانا، الصديق تاج الدين الموسى وأنا، لتناول فنجان قهوة عنده. لا أريد أن أطيل السيرة، ذهبنا، وسمعنا منه نفس أسطوانة الصمود والتصدي والتوازن الاستراتيجي وقيادة حافظ الأسد للأمة العربية، حتى وصل الحديث إلى ضرورة مشاركتنا في الأمسيات الأدبية التي تقام في هذا البلد المقدام.

قال له تاج: ألا يكفيكم الرفيق أبو فستوك؟

وقتها شعر الرجل بالإهانة، فقال، محاولاً السيطرة على أعصابه:

- لا شك أنكم أدباء كبار، إن على مستوى المحافظة أو على مستوى القُطر. ولكن هذا بأيش يفيدنا نحن؟ بصراحة يا رفاق نحن نمر بمواقف يكون فيها أبو فستوك (رغم كل شي) أحسن من كل كُتاب سوريا!

سألته: كيف؟

قال: يا أستاذ خطيب، أنت وأخونا أبو مصطفى سادة العارفين، أنا أكون جالساً في مكتبي، بأمان الله، وفجأة يأتيني اتصال من القيادة، يريدون مني إعداد العدة لاحتفال خطابي فني ثقافي في اليوم التالي، فأُصْبِحُ بحاجة ماسة إلى من يكون عريفاً للحفل، وينظم الخطابات، ويكتب قصائد تشيد برفيقنا القائد العام المناضل حافظ الأسد.. في هذه الحالة أستنجد بتاج الدين الموسى وخطيب بدلة وعبد العزيز الموسى، أم بـ أبو فستوك؟!!!

(هههه.. والله الرفيق معه حق)!