يريد السوريون طحيناً لا جعجعة

2020.04.13 | 00:32 دمشق

mrd_lsd_ldwly.jpg
+A
حجم الخط
-A

سَبَقَ نظامُ بوتين نظامَ الأسد في هجومه على نتائج لجنة منظمة حظر الأسلحة الكيماوية OPCW/IIT، المكلفة بالتحقيق وبتحديد (Investigation and Identification) الجهة التي استخدمت السلاح الكيماوي في سوريا، واصفاً التقرير الصادر في الثامن من نيسان/أبريل 2020، والواقع في 82 صفحة، والناتج عن عمل تسعة أشهر متواصلة لخبراء محايدين؛ بأنه مسيَّس ومضلل وغير نزيه؛ فقط لأنه يحدّد بعلمية وموضوعية ودقة ووضوح مسؤولية نظام الأسد عن استخدام السلاح الكيماوي في منطقة "اللطامنة" السورية.

بعد استخدام أعلى المعايير البحثية المعتَمَدَة في أهم المختبرات العالمية، وإجراء مئات المقابلات الحيّة مع شهود من المنطقة وغيرها، وتحليل مئات النماذج والعيّنات؛ وبعد التشريح المخبري لعينات من الأمكنة التي استُخدم فيها الكيماوي بتربتها، وبقايا الذخيرة والإصابات فيها؛ وبناءً على دراسة مئات التقارير؛ وبعد معاينة صُور الأقمار الصناعية للمنطقة وما يحيطها، ورصدها لحركة المطارات ومسارات الطائرات؛ جاء في تقرير اللجنة "غير النزيهة" - حسب نظامي الأسد وبوتين- أنه:

- في السادسة صباحاً من يوم 24 من آذار/مارس 2017، قامت طائرة سوخوي 22 تابعة للواء خمسين من القوات الجوية السورية في مطار الشعيرات برمي قنبلة M4000 تحوي /غاز السارين/ جنوب بلدة اللطامنة وأنهت حياة 16 شخصاً.

- وفي الثالثة من بعد ظهر اليوم 25 من الشهر ذاته، قامت طائرة هليوكبتر برمي أسطوانة /cylinder/ تحوي غاز الكلور لتخترق سقف مشفى وتقتل ثلاثين شخصاً متأثرين بالغاز المذكور.

- وفي السادسة من صباح اليوم 30 من الشهر ذاته 2017 قامت طائرة سوخوي 22 تابعة للواء 50 من القوات الجوية السورية في مطار الشعيرات برمي قنبلة M4000 تحتوي غاز السارين جنوب بلدة اللطامنة آتية على حياة 60 شخصاً.

جدير بالذكر، أن اللجنة ليست قضائية، وليس من مهمتها إصدار الأحكام القضائية، بل "تثبيت الحقائق لما حدث بدرجة عالية من اليقينية مبنيّة على أسس منطقية" “to establish facts of high degree of certainty based on reasonable grounds”؛ حيث إن الاستخدام الفعلي مُثْبَتٌ ولا شك فيه. 

جدير بالذكر، أن اللجنة ليست قضائية، وليس من مهمتها إصدار الأحكام القضائية، بل "تثبيت الحقائق لما حدث بدرجة عالية من اليقينية مبنيّة على أسس منطقية"؛ حيث إن الاستخدام الفعلي مُثْبَتٌ ولا شك فيه

وكان نظام بوتين قد دأب مسبقاً على حماية نظام الأسد بشتى الوسائل، وعلى رأسها "الفيتو" لحماية النظام الأسدي. ومعروف أن بوتين كان عرّاب صفقة الكيماوي، التي سلّم الأسد بموجبها ترسانته الكيماوية، وأقرَّ بأنه لم يعد لديه أي أثر للسلاح الكيماوي، وتعهد بألا يعود لاستخدامه ثانية، بموجب القرار الدولي 2118؛ بعد أن ذهب ضحية ذلك الاستخدام ما يقارب الألف وخمسمئة ضحية سورية في غوطة دمشق.

لم تكن تلك جريمة الحرب الأولى لنظام الأسد. عشرات بل مئات أمثالها ارتكبها خلال السنوات التسع الماضية؛ ولكن يبدو أن ما استنفر الروس أكثر هذه المرة ليس فقط دقة تقرير اللجنة التي سعوا إلى عرقلة عملها، ونسف مصداقيتها قبل ظهور نتائجها، وليس فقط شمولية التقرير وموضوعيته ودرجة يقينيته؛ بل ما أتى في التقرير حول:

 (1) عدم وجود تحقيق بالمسألة من قبل السلطات السورية، وعدم تعاونها مع أي تحقيق، وعرقلتها للعمل، والمسارعة إلى إخفاء أية أدلة. وكل ذلك موثقٌ. 

(2) إشارة التقرير إلى لزوم سلسلة من الأوامر العليا لاستخدام سلاح ذي صفة استراتيجية، والحاجة إلى قيادة عليا تعطي الأمر بذلك. وهذا الأمر لن يقف هنا بل سيطال من تحرص روسيا على حمايتهم حصراً. والأخطر من كل ذلك ما سيلي.

 (3) ما ذكره التقرير حول ضرورة توفر دعم رصدي رفيع المستوى، وهو ما قد يتم تفسيره على أن يد روسيا منخرطة في العملية. ولعل هذا ما يفسّر الاستنفار الروسي، الذي تجاوز استنفار النظام المرتكِب. فهكذا لن يكون على الروس حماية النظام فقط، بل حماية أنفسهم من إدانة صريحة محتملة بارتكاب جريمة حرب موصوفة وموثقة؛ حيث إن الوجود الروسي العسكري الثقيل، وتعهد روسيا بحماية النظام، والمصادقة و "المطابقة" على أفعاله؛ أمورٌ لا يمكن وصفها إلا بالتورط في الجريمة.

ومنذ انطلاقة هذه اللجنة بالذات، وخلال عملها وبعد إنجازها تقريرها؛ لم تُجدِ محاولات روسيا رفض اللجنة، وعرقلة تشكيلها بداية، والتجسس عليها ومحاولات الدخول إلى منظوماتها التقنية لاحقا، كما أفادت جهات سورية متابعة لعملها، وما عاد ينفعها التكذيب والتشكيك والاتهام بالتسييس بحكم ولاية اللجنة ”MANDATE“.

صحيح أن هذا التقرير لم يحمل حكماً قضائياَ، وما حدد أو نصَّ على محاكمة الجناة، أو إنزال القصاص اللازم على تلك الجرائم؛ إلا أن ما احتواه التقرير من إدانات صريحة ولّدت ردات فعل دولية أممية وأمريكية وأوربية دعت لمحاسبة الجناة وعدم تفلتهم من العدالة، تجعل استمرار أخذ بوتين مجلس الأمن رهينة مستهجناً وجريمة بحد ذاته. هذه الجهات إضافة إلى من يحمل صوت السوريين، ولا يزال يتمترس عند حقهم في الحرية والإنصاف، لا بد أنها ستجد مساراً لإحقاق العدالة المناسب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي عشرات المحاكم المحلية لدول يهمها معاقبة المجرمين.

قد لا يستطيع العالم فعل شيء مع روسيا؛ ولكن يمكنه على الأقل أن يثبّت بأنها، إن لم تكن تعرِّض السلام العالمي للخطر بدعمها واشتراكها باستخدام الكيماوي، فهي عملياَ وواقعياً تصمت وتحمي مَن يستخدمه

يبقى لهذا التقرير، على أية حال، ثقل ومفاعيل سياسية تحول دون أي محاولات لإعادة تكرير أو تأهيل نظام الأسد أو التعامل معه؛ لأن أمراً كهذا يشكّل استسلاماً وقبولاً باستخدام السلاح الكيماوي، سهل التصنيع، من قبل أي جهة تريد أن ترعب العالم في غياب الردع والحساب.

قد لا يستطيع العالم فعل شيء مع روسيا؛ ولكن يمكنه على الأقل أن يثبّت بأنها، إن لم تكن تعرِّض السلام العالمي للخطر بدعمها واشتراكها باستخدام الكيماوي، فهي عملياَ وواقعياً تصمت وتحمي مَن يستخدمه؛ فهل يستحق مَن يصمت على جريمة حرب، ويدعم مرتكبها، ويشارك فيها؛ أن يكون عضواً دائماً في مجلس أمن مهمته السلام العالمي؟!

صحيح أن السوريين، ضحايا كل هذا الإجرام، ينتظرون ردعاً لمن يرتكب بحقهم كل ذلك؛ أكان عبر "قانون قيصر"، أو تطبيقاً حقيقياً للقرارات الدولية، أو مَن يأتي لنجدتهم من فيروس "كورونا" وفيروس الاستبداد؛ إلا أن هناك رخاوة عالمية واضحة تجاه وجعهم. فالتصريحات الأوروبية والأمريكية لا ترفع ظلماً، ولا توقف متجبراً. يريد السوريون طحيناً، لا جعجعة.