"يا حرية" في "الشراقة": شرف الكلمة

2021.12.11 | 05:31 دمشق

200731867_514816263005023_218143921310357049_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

كنت  كثيراً ما أنشغل بخواتيم القصة المعروضة على التلفزيون أو ببعض شؤونها المغفلة أو عقدها المنسية أو بمقدماتها  وبعض أسرارها، فأتساءل مثلاً عن إعدادات رحلة لؤي العتيبي في إثيوبيا "على الأقدام" وتكاليفها، والمصاحبين لها، وعقباتها، ومصاعب الترجمة إلى لغات القبائل البرية المعزولة في الغابات، فلا بد أن العتيبي اصطحب طبيباً، فمعدّ الرحلة وبطلها الشجاع يعرّض نفسه لعناق ثعبان البوا العاصر، وسمّ الضفدع القاتل، ولا يخشى ضباع مدينة "هرر" الأليفة مثل الهررة حتى إن أحد الضباع كريهة الريح يعلو ظهره، وتمنيت لو سمعت شهادته فيلماً أو تقريراً عن شؤون الرحلة وعن فريقه، فلبعض الحكايات قصص.

تختلف محررة كتاب الشراقة، ومعدة برنامج "يا حرية" سعاد قطناني عن أحمد منصور ربّان برنامجي "شاهد على العصر" و"بلا حدود"، الذي كان يجلد شهود العصر بسياط الأسئلة وهم شخصيات من سادات الناس وقادتهم، ويرى بعضهم أن أسلوبه حميد، لكني كنت أجد أنه يلجّ في المسألة والنكاية به والإصابة منه، وكان يحبُّ سماع إقرار ضيوفه بأخطائهم على طريقة تشبه طريقة مذيع الجنايات السادي علاء الدين الأيوبي السوري، مثال ذلك الإلحاف على فريد عبد الخالق للاعتراف بغفلة قادة الإخوان المسلمين غير مرة، وكان يهدر أجوبة الضيف حامد الجبوري لإصراره على النكاية به، وهو شخصية شغلت عدداً من المناصب تحت قيادة صدام حسين، وكان يتحدث عن اجتماع القيادة العراقية يقودهم صدام حسين عن نتائج وقف الحرب العراقية على الشعب، وعقابيل عودة مليون جندي إلى البيوت بعد حرب ضارية، فانحرف أحمد منصور إلى التشفّي بضيفه وإغضابه ودفعه للاعتراف بمساوئ الدكتاتورية، فضيّع على المُشاهد جواب الجبوري عن اللقاء الذي طال ست ساعات.

 أظن أن سبب تحويل برنامج "يا حرية" من وثيقة بصرية مرئية ومسموعة إلى وثيقة ورقية هو شرف النص المكتوب عند العرب، وخساسة الصورة التي ذلّت وأهينت بعد عزٍّ وسؤدد، وحدود الرقابة وموانعها التي تقل في الكتابة، ومن المألوف أن تحوّل نصوص مكتوبة إلى نصوص مرئية، لكن جهة إعلامية هي الجزيرة الرائدة في الإعلام العربي رأت أن تحوّل في موقعها معظم حلقات البرامج الشهيرة المبثوثة إلى نصوص مكتوبة، حتى تتاح لمحبي القراءة الدارسة والآثار والرواسم، أو المحرومين من الكهرباء.

شاهدت معظم حلقات البرنامج يا حرية، وبعضها من يوم القيامة، ويحتاج إلى عزيمة للمشاهدة وبأس شديد، وتساءلت عن بعض الشؤون والأسرار التي بخل بها البرنامج أو غفل عنها أو حالت دونها الرقابة.

تمنيت لو عرفت مثلًا لماذا أقدم النظام على إطلاق سراح عمر الشغري، أو كيف استطاعت رزان القحطاني الوصول إلى إسطنبول، وهل كان عندها مال للرحلة ووثائق سفر، وانتظرت الكتاب بفارغ الصبر عندما سمعت بخبر إعداده، واطلعت على ثلثيه، ولم أجد فيه أجوبة لأسئلتي، ولم يروِ ظمئي، ورجوت أن يكون الكتاب مختلفًا عن البرنامج، كأن يكون شهادة الكاتبة في الشهادات. أن يكون جديدا كله.

 الكتاب تفريغ للصورة إلى كلمات، والكلمات هي نفسها التي وردت على ألسنة الشاهدين، سوى ذكر بعض ألوان مشاعرها، وبعض الأخبار المنسيّة، وشاء أسلوبها الإذاعي أن يكون في التواري خلف أستار الغياب، فقد تركت الشاهد الشهيد يروي من غير أن تظهر صوتا أو صورة، فقد كان الضحية وحيداً في السجن، ووحيداً في الرواية في مواجهة المشاهد. لقد رأت جلال رحلته أجلُّ من أن يخلطها خالط.

تروي المعدة في كتابها طريقة الوصول إلى أصحاب الشهادات، وكدت أقول الشهداء، ولزمتْ في الكتاب ما التزمته في الصورة، فبقيت أسيرة لأقوال أصحابها، لولا بعض المعلومات مثل ذكر رياض أولر أنواع السجون، وذكر فدوى محمود أسماء بعض الناشطين، فالكتاب في معظمه تفريغ لشريط الصورة والصوت إلى حبر، وأظنُّ أنها حاولت أن تسبغ على الكتاب سبغةً من الصور الأدبية، فخانها السرد، فالقارئ سيدرك قلة خبرتها فهي مذيعة بصرية.

  قلَّ أن جمعَ مذيع بين شرفي القلم والعدسة، فمن عيوب السرد عدم تفريقها بين قول الراوية وقولها بالأقواس، أو البنط، وقد تتداخل في الروايات الأصوات، لكن ذلك يحتاج إلى خبرة كبيرة ومعرفة بمنعطفات الكلام، وسوى ذلك نبرة القول وطبقته السردية، مثال ذلك قول باسل هيلم: اعتقلوا زوجي، وهي عبارة صحيحة لغويًا بل فصيحة، لكنها غريبة على سياق مسرود باللغة العامية، فالأولى أن يقول: زوجتي. عدت مرات إلى قراءة السطر خوفًا من اختلاط الوقائع والتباس الأشخاص ببعضها، ثم تكرر وصف الزوجة في شهادات أخرى بالزوج.

 ومن حكاية باسل هيلم اقتُبس اسم الكتاب، فالشراقة نافذة باب الزنزانة. وصف باسل هيلم السجن وصفاً بليغاً وبديعاً بأنه جامعة يوسف عليه السلام، ذكر مرة أن رائحة مسك عبقت بالسجن إثر موت صديقه، لكن الراوية لم تتوقف للسؤال عن الرائحة، فمرت عبارته عرضاً.

ومرّتْ عبارات من فحول القول غنية بالمعاني، كقول عمر الشغري: عشنا بفضل القمل، لقد كان القمل في السجون السورية أملًا وسلوى، وأمثال هذه العبارات هي ما بنى عليها السجين السابق إبراهيم صمويل قصص مجموعته رائحة الخطو الثقيل.

 رياض أولر من أغرب أبطال الكتاب، لأنه تركي، وسُجن لسبب عارض يشبه نواة التمر التي قتلت العفريت في قصة التاجر والعفريت في ألف ليلة وليلة.

 ومن عجائب حكاية رياض أولر أنه لم يفقد ظرفه بعد عقدين من الزمن اعتقالاً وتعذيباً مع زوجته، وإنه تبادل الرسائل مع "زوجه" في السجن بتواطئ من السجانين، وما يجعل قصته درامية أنه ينحدر من قرية تركية تشبه الجنان، وفد إلى سوريا لتعلّم العربية في قلب العروبة النابض، فعاقبوه بإحدى وعشرين سنة سجنا، ولم يخرج إلا بمصادفات مقدورة، وتمنيت لو عرفت سبب تجاهل الرئيس التركي عبد الله غول له في زياراته، فقد أطلق له النظام السوري أربعة سجناء هدية، وترك رياض أولر، أظنُّ أن ثمة نسياناً من نسيانات المكاتب وراء ذلك.

 يظن المرء أن الكلمة تردت وأن الصورة سلبت الناس عقولهم، وقد اتصلت بيوتوبر ألماني له الآلاف من المتابعين على صفحته من متعلمي الألمانية، ووضعت رابط مقال عنه في صفحته على الواتس فطلب اليوتيوبر مني بلطف شديد ألا أضع روابط مقالات في صفحة الواتس، فأخبرته أنّ المقال عنه، وهو بطل المقال، فتعجب وصاح مثل أرخميدس: إلى المقال فوراً.

 الكلمة لها سحر في عصر الصورة. وكنت أرجو وآمل أن أرى شهادات هؤلاء الفرسان في كسوة أخرى. لكن محررة الكتاب آثرت البلاغ على البلاغة.

 إلى الكتاب الذي يروي اثنتي عشرة شهادة من وراء البرزخ، فهو وثيقة عن سوريا الأسد في نصف قرن من الاستعباد.

كلمات مفتاحية