وطنيون.. لكن على مقاسهم

2023.08.02 | 06:15 دمشق

وطنيون.. لكن على مقاسهم
+A
حجم الخط
-A

كلّما نقلت مواقع التواصل الاجتماعي رأياً خارجاً عن المألوف، في مناطق سيطرة النظام، ينشغل السوريون به على اختلافهم. والخارج عن المألوف له ثلاثة محددات في وعي ولا وعي السوريين المعارضين: أولها أن يكون الشخص موالياً للسلطة الحاكمة، وثانيها أن يكون من طائفة محددة، وثالثها أنه يتجاوز الخطوط الحمراء في انتقاده، والخطوط الحمراء هي أيضا محددة بثلاثة حدود في وعي ولاوعي السوريين الموالين: أولها رأس النظام وعائلته وزوجته وأولاده، وثانيها ما تبقى من وحدات "الجيش السوري" الذي يدافع عن سلطة العائلة، وثالثها حلفاء النظام، وفي مقدمتهم حزب الله وإيران وروسيا.

في تناول "الموالين" لهذا الصوت غير المألوف، يُداس ببساطة على معنى الوطن والمواطنة والدولة، وتصبح سوريا مجرد ملكية لعائلة الأسد، وبالتالي فكل ما يتصرفه المالك بملكه هو حقٌ له، والاحتجاج هو نكران لهذا الحق، ونكران للفضل العميم الذي أغدقته هذه العائلة على السوريين منذ أن وصلت بالقوة إلى السلطة قبل أكثر من نصف قرن، لا يختلف الأمر كثيراً في تناول "المعارضين"، فهم أيضا يدوسون عند نقاشهم لهذا الصوت على معنى الوطن، والمواطنة والدولة، والكارثة أن كلا الطرفين يظنون أنفسهم حماة الوطن، والمواطنة والدولة.

في نظر الموالين هذا الصوت خائن، ومدفوع، وهو جزء من المؤامرة الكونية على عائلة الأسد الممانعة، أو هو ناكر لجميل القيادة والجيش "حامي الحمى!"، أما في نظر المعارضين فهو إما مدفوع من المخابرات، أو أنه مجرد جائع يصرخ من جوعه، وإن شبع سيعود للتصفيق والهتاف للعائلة، أو أنه بأحسن حالاته، مجرد صحوة ضمير مؤقتة ستنتهي سريعاً.

لكلا الطرفين مبرراته التي يراها مبرمة، ولا تقبل النقض، رغم كل الهشاشة والضحالة التي تنطوي عليها هذه المبررات، وإن كنت هنا لست بوارد تفنيد هذه المبررات وتفصيلاتها، إلا أنه من الضروري القول إن كلا الطرفين ينسف تماماً فكرة المواطنة، والدولة التي لا بدّ من اتساقهما، كي تخرج سوريا من محنتها.

من معايير المواطنة الأساسية، أنه يحق لكل سوري أن يقاضي أي سوري آخر اضطهده، أو انتهك حقاً من حقوقه، ولا يهم في هذه المقاضاة موقع المتهم، أو وظيفته، أو صفته، أو طائفته

في بديهيات فكرة المواطنة والدولة لا بدّ من معايير كثيرة، يُشكل الخلل في أحدها، خللاً في مجمل الفكرة، فمثلاً لا يحق لسوري أن يتهم سورياً آخر لأنه لم يناصر الثورة، فالثورة ليست هوية محدِّدة، وحصرية وحاسمة في انتماء أي سوري لسوريا، كما أنه لا يحق لأي سوري أن يتهم سورياً آخر لأنه عارض السلطة، ومن المسلّم به برأيي أن فكرة المعارضة والموالاة هي حق لكل سوري، لكن هنا لا بد من التأكيد على فكرة أن المعارضة والموالاة هنا، إنّما تنحصر أساساً في ما نصت عليه شرعة حقوق الإنسان.

أيضاً من معايير المواطنة الأساسية، أنه يحق لكل سوري أن يقاضي أي سوري آخر اضطهده، أو انتهك حقاً من حقوقه، ولا يهم في هذه المقاضاة موقع المتهم، أو وظيفته، أو صفته، أو طائفته، أي لا حصانة لأحد إلا بما يحدده الدستور والقانون، وعلى الدولة السورية أن تضمن عدالة هذه المقاضاة، وأن تضمن استعادة حق من سلب حقه.

تأسيس فقط على هذين المعيارين من بين المعايير الكثيرة الأخرى، سأتناول ما قالته مواطنة سورية اسمها "لمى عباس"، وما سوف أقوله أقصد به أيضاً ما قاله وقد يقوله آخرون غيرها، مثل بشار برهوم أو أي آخر غيرهما، وهذه الأمثلة إنّما اخترتها، لأنه تم تداولها بكثرة في الفترة الأخيرة.

بوضوح شديد أن تصرخي من جوعك فهذا حقك، ولا يعيب أحد الصراخ جوعاً، وأن تعادي الثورة السورية هو أيضاً حق لك، لكن ليس من حقك أن تتجاهلي حقوق سوريين آخرين، والحد الأدنى من احترامك لهويتك السورية التي تتشدقين بها

في كل الحديث الطويل الذي أتحفتنا به السيدة لمى عباس، لم تكن الدولة أو المواطنة حاضرة، رغم كل الجمل الإنشائية والخطابية التي ملأته، فالدولة في حديثها هي المطالبة بتأمين الكهرباء، والطعام، ومستوى الدخل الذي يضمن حياة كريمة، والطبابة وغير ذلك من خدمات لمواطنيها، هذا صحيح، لكن لماذا تجاهلت السيدة "لمى" أن الدولة في أهم مرتكزاتها هي كرامة وحقوق كل مواطنيها، وتجاهلت تماماً أن ملايين من الشعب السوري استُلبت حقوقهم وشرِّدوا وهجّروا، وقُتل منهم أعداد كبيرة، ولا تزال أعداد المفقودين منهم تقدر بما يزيد على مئة ألف مختف، فأي وطن أو مواطنة أو دولة تلك التي تطالبين بها، وأنت تتجاهلين حقوق نصف الشعب السوري على الأقل. (رغم أنني على يقين أن ما يقرب من 95% من الشعب السوري له حقوق سلبتها عائلة الأسد وعصابتها، خلال عقود حكمها).

بوضوح شديد أن تصرخي من جوعك فهذا حقك، ولا يعيب أحد الصراخ جوعاً، وأن تعادي الثورة السورية هو أيضاً حق لك، لكن ليس من حقك أن تتجاهلي حقوق سوريين آخرين، والحد الأدنى من احترامك لهويتك السورية التي تتشدقين بها (أنت وغيرك ممن ساندتم عائلة الأسد)، وتعتبرين أنك مخلصة لها يحتاج منك إلى ما يلي:

  • أن تطالبي السلطة السورية التي تطالبينها بالخبز والكهرباء و..و.. بالكشف أيضاً عن مصير ما يزيد على مئة ألف سوري، اختفوا في سجونها.
  • أن تطالبي السلطة السورية بتحقيق شفاف ونزيه، حول الــ55 ألف صورة التي سرّبها "سيزار"، فالضحايا سوريون، ومن حق كل السوريين أن يعرفوا حقيقة هذه الصور.
  • أن تطالبي السلطة السورية بتحقيق حول قصف مدنيين سوريين داخل سوريا بالأسلحة الكيميائية، وأن تطالبي بمعرفة حقيقة المجازر التي ارتكبتها قوات تتبع للسلطة بحق قرى وأحياء سورية.
  • أن تطالبي السلطة السورية بمحاكمة المجرم أمجد يوسف وأمثاله، ومن يقف خلفهم.
  • أن تطالبي السلطة السورية في حقيقة الدور الإيراني في سوريا، ومدى مصلحة الشعب السوري في المعاهدات الموقعة بينها – أي السلطة – وبين إيران.
  • أن تطالبي السلطات السورية بالتحقيق حول الآثار السورية التي تنهبها أطراف تابعة للسلطة السورية، أو حليفة لها، وأن تطالبيها بحقيقة ظاهرة التعفيش، ونهب بيوت السوريين، وأن تطالبيها بالتحقيق حول تحويل سوريا لدولة مخدرات، وأن...وأن.. وأن.. إلخ.

إن كنتِ قد ساندتِ النظام، وضحيتِ، وتحملتِ وصبرتِ و..و.. ثم تطالبين هذا النظام بمكافأتك، فأنت مجرد مرتزقة، مرتزقة امتنع مستأجرها عن منحها أجرها، ولست من الوطنية بشيء، وسأفترض هنا أنك لا تعلمين من كان الضحية الذي ساهمت مساعدتك للنظام بقتله وتشريده و..و.. أما إن كنت تعلمين من هم الضحايا، فأنت لست سوى مجرمة شريكة في الجريمة.

لا يُمكن تفصيل الوطن على مقاس السلطة الحاكمة، أو مقاس حاجاتك الخاصة فإمّا أن تعتبري الوطن كما يجب اعتباره، بكامل مواطنيه وكرامتهم وحقوقهم، وبأرضه، وتاريخه، وذاكرته، ومستقبله وثرواته و..و... أو أن تقتصر مطالبتك على أجرك الذي لم تتقاضيه ثمنا لخدماتك لمن خان الوطن ودمّره.