icon
التغطية الحية

وجوه جديدة للتسول: كيف يجمع المحتاجون في دمشق بين الكرامة والبقاء؟

2024.05.28 | 06:15 دمشق

آخر تحديث: 28.05.2024 | 10:41 دمشق

syria_7.jpg
شارع في دمشق (رويترز)
دمشق - حنين عمران
+A
حجم الخط
-A

لم يعد التسوّل في دمشق ظاهرة تُقابل بالاستنكار فإلى جانب نبش الحاويات للحصول على بعض الخردة وبيعها للترزّق، صار طلب المال من الآخرين، سواء بأساليب التذلل والتوسّل أو حتى بطريقة لَبِقة تحفظ ما بقي من كرامة السائل، ظاهرة تهيمن على شوارع العاصمة.

وكان مجلس محافظة دمشق التابع للنظام قد اعترف في السنوات الفائتة أن التسول تحوّل إلى مهنة، وحذّر من تفاقمها مع استعصاء الحل وعجز حكومة النظام عن معالجة هذه الظاهرة، لا سيما مع عيش معظم الأهالي تحت خط الفقر.

رصد موقع تلفزيون سوريا مظاهر جديدة للتسوّل وأساليب مبتكرة لطلب المال في شوارع دمشق، عبر مشاهدات حية وقصص حقيقية على لسان أصحابها.

ملابس نظيفة وسؤال لطيف

لطالما كانت الصورة المألوفة للمتسول في أذهان الناس، هيئته الرثّة وثيابه المتسخة أو الممزقة ورائحته الكريهة. إلا أن تدهور الوضع المعيشي دفع بعدد كبير من الناس من ذوي النفوس العزيزة إلى طلب المال دون حتى أن يضطروا إلى ارتداء ملابس قديمة أو اتخاذ هيئة المتسولين المعتادة.

وكان لخسارة الناس بيوتهم بالقصف والتهجير خلال سنوات الحرب، وإجبارهم على تحمل أعباء الإيجارات الغالية، دور كبير في تحويل من كانوا أصحاب أملاك وأعمال لائقة إلى أشخاص يسألون المال والطعام استدانةً أو تسولاً أو استعطافاً، لا سيما مع بداية كل شهر جديد عند الحاجة إلى دفع الإيجار.

(أبو مازن) رجل كبير في العمر، يتجول بصورة منتظمة في شوارع الحمراء والصالحية والشعلان بثيابه الأنيقة مستنداً إلى عكّازه الخشبية، طالباً من الناس شيئاً من مالهم.

التقينا بالعم (أبو مازن) الذي يبلغ ثلاثة وستين عاماً، بالقرب من مأكولات الحمراء، وسألناه عن حاجته لطلب المال رغم أن هيئته لا تشبه هيئة المتسول. يقول (أبو مازن) لموقع تلفزيون سوريا: "أعيش وحدي مع زوجتي، وكنت أعمل في الخياطة النسائية لكنّ نظري لم يعد يساعدني في العمل، أما ابني الوحيد فهو مفقود منذ عام 2013".

يطلب (أبو مازن) المال من أجل تأمين الدواء لزوجته وتحصيل وجبة واحدة يومياً. يتابع كلامه: "كل شي صار غالي وبيكسر الضهر".

التسول اليومي بعد المدرسة

على غرار الأطفال الذين يخرجون من مدرستهم متوجهين إلى حاويات القمامة القريبة لتجميع الخردة والبلاستيك وبيعها من أجل مساعدة عائلاتهم، لجأت بعض الفتيات القاصرات إلى امتهان أعمال لا تليق بأنوثتهن ولا تناسب أعمارهن وذلك بعد الانتهاء من الدوام المدرسي لتأمين مصروفهن الشخصي، لا سيما بعد أن عجز الأهالي عن تأمين المتطلبات المدرسية أو حتى مقومات الحياة الأساسية.

(مريم – اسم مستعار) هي فتاة في السابعة عشرة من عمرها (في الصف الحادي عشر)، تعيش في "حارة الرز" التابعة لمنطقة دُمَّر. تأتي (مريم) إلى ساحة المحافظة كل يوم تقريباً بعد انتهاء الدوام المدرسي وتجلس بالقرب من البنك الدولي الإسلامي وتبقى حتى الساعة التاسعة مساءً، وتهمس بصوت خافت للمارّة "ساعدني الله يخليك" خجلاً من الطلب وأملاً بالعطف عليها.

ترتدي مريم ثياباً نظيفة وحجاباً ملوناً، وتضع القليل من الكُحل الأسود في عينيها، وتحمل على عاتقها -حسب أقوالها لموقع تلفزيون سوريا- مسؤولية أمها مريضة السكري، وأخويها الصغيرين بعد طلاق والديها، وتسعى إلى تجميع إيجار منزلها المقدّر بـ 600 ألف ليرة سورية، أو تحصيل شيء منه قبل انتهاء الشهر.

وعند سؤالها عن تحضيراتها للعام القادم "البكالوريا"، تغصّ (مريم) وتخفض رأسها بشعور من العجز والإحباط، وتقول: "أتمنى يتغير شيء... أتمنى ما أحتاج أطلب مصاري من حدا، أنا بحب الدراسة".

تتعرض (مريم) للمضايقات حسب وصفها، فبعض الأشخاص يظنون أنها فتاة "غير مهذبة" أو أنها تدعي الفقر لا سيما أن ملابسها مرتبة، لذا تحاول مريم العودة قبل العاشرة مساءً –حسب قولها- إلى المنزل حتى لا يتعرض لها أحد المتحرشين لا سيما من زوار المقاهي والمطاعم القريبة في ساحة المحافظة.

بائعات ورد أم تسوّل مُقنّع؟

في ساحة باب توما وعند قوس باب شرقي، فتيات بأعمار مختلفة يقمن ببيع الورد للعشاق الذين اتخذوا من حجارة باب شرقي وحديقة "القشلة" مكاناً دافئاً يجلس فيه الأحباب والأصدقاء.

تباغت الفتاة التي تحمل ورداً جورياً، شاباً يسير مع صديقته أو خطيبته، وتطلب منه أن يشتري لها وردة بـ 10 آلاف ليرة وهي تقول اللازمة المكررة مع جميع المارة: "الله يجوّزكن... الله يخليكن لبعض".

أصبح بيع الورد ولا سيما بالنسبة للفتيات والشابات، هو الطريقة الألطف لطلب المال حتى وإن كان ما يقلنهُ للمارة عند عرض الورد عليهم، لا يخلو من التوسّل والإلحاح.

(سمر) ذات الـ 13 عاماً، التي تتجول بالقرب من "كروسان القيمرية" يومياً، تقول صراحةً بأنّها تخجل طلب المال من المارّة لكنها لا تخجل من عرض الورد عليهم "أنا بقول للناس يشتروا مني ورد، في ناس ما بتاخذ الوردة مني بس بيعطوني مصاري أو بيعطوني الباقي من سندويشة الشاورما أو الكروسانة".

تركت (سمر) المدرسة بعد الصف السادس (بانتهاء المرحلة الابتدائية) وتعمل ببيع الورد من أجل تحصيل المال ومساعدة عائلتها.

ولا تخلو عملية عرض الورد على المارة، من محاولة "تخجيل" الشاب أمام الفتاة التي تسير إلى جانبه، لا سيما مع تدفق سيل الدعوات من الفتاة بائعة الورد. 

بعض الفتيات يتعرضن للشتيمة عند إلحاحهن على أحد المارة، وبعضهن الآخر ينال الشفقة فتحصل الواحدة منهن على مبلغ من المال يفوق العشرة آلاف ليرة سورية دون خسارة وردة واحدة حتى.

 الموسيقا كطريقة لتحصيل المال

يستغل بعض الشباب والشابات من طلبة المدارس أو الجامعات، ما يملكونه من موهبة في الغناء أو العزف على إحدى الآلات الموسيقية، حتى وإن كانوا مبتدئين فنياً، من أجل الحصول على المال.

في شارع القباقبية خلف الجامع الأموي، وفي حديقة القشلة بباب شرقي، وعند الأحجار "الآثار" بالقرب من الكنيسة المريمية، ستصادف شباناً يعزفون على الناي أو يدندنون على العود أو الغيتار، وأمامهم علبة من الكرتون لوضع المال.

لن يضطر المارّة إلى سماع ما يعزفونه أو ما يغنونه من مواويل تكسر صمت الليل في دمشق بل سيقدّر البعض عدم طلبهم للمال بشكل مباشر، وسيحترمون كونهم يقدمون أنفسهم ويعبرون عن احتياجهم للمال دون تذلل أو إنقاص في كرامتهم.

وقد انتشرت هذه الظاهرة في دمشق في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، وبغض النظر عن الموهبة أو جمالية ما يقدمونه، إلا أنّهم وجدوا طريقتهم الخاصة للحصول على المال دون السؤال عنه، وهي تجربة لا تخلو من التسلية والشهرة، اقتبسها الشباب السوريون من الحياة الأوروبية التي يرونها على مواقع التواصل الاجتماعي.

لم تعد الحياة في دمشق كما كانت عليه، إذ تبدو هذه المدينة مُجحفة بحقّ أبنائها الذين تبدو عليهم ملامح الجوع وسوء التغذية؛ فالوجوه صفراء والأجساد نحيلة والظهور محنية. يقول (أبو مازن) خاتما حديثه: "مجبورين على الشحادة.. الله يلعن يلي كان السبب بما وصلنا إليه".