icon
التغطية الحية

وثيقة بصرية بمعايير هوليودية.. عن "سنوات الحب والحرب" في "سفر برلك"

2023.06.30 | 13:06 دمشق

آخر تحديث: 30.06.2023 | 15:03 دمشق

الممثل السوري عابد فهد في لقطة من مسلسل سفر برلك
الممثل السوري عابد فهد في دور أحمد جمال باشا بمسلسل سفر برلك
تلفزيون سوريا ـ وائل قيس
+A
حجم الخط
-A

عندما أعلنت مجموعة استديوهات إم بي سي في 2020 عزمها إنتاج مسلسل مشترك (سعودي، لبناني، سوري) عن الأيام الأخيرة التي سبقت سقوط الدولة العثمانية، المعروفة على نطاق واسع بأيام "سفر برلك" (النفير العام)، أرفقت في بيانها أن المخرج حاتم علي (1962-2020) سيكون المشرف الرئيسي على تطوير المسلسل نصاً وإخراجاً. لكن الرحيل المفاجئ لصاحب "التغريبة الفلسطينية" في ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، كان السبب في تأخير دخول المسلسل مرحلة الإنتاج الذي استغرق تصويره نحو عامين.

بعد وفاة علي، اختارت المجموعة الليث حجو لمتابعة تطوير المسلسل المكوّن من 20 حلقة، وهو نتاج ورشة سيناريو تضم تيسير عسكري، جنباً إلى جنب مع إياد أبو الشامات، ووائل حمدي، ومحمد أبو لبن.

القائمون على المسلسل كانوا قد وضعوا له عنوان "سنوات الحب والحرب" في البداية، قبل أن يستقر بهم المقام على عنوان "سفر برلك". وعلى الرغم من الكلفة الإنتاجية الضخمة التي رافقت تصوير المسلسل، فإن الملاحظ عدم حصوله على الحملة الدعائية المطلوبة، كما الحال مع الأعمال الدرامية المنافسة التي عُرضت على منصة شاهد نت، حتى إن الحلقتين الأخيرتين من "سفر برلك" غير متوفرتين على المنصة نفسها، حتى تاريخ يوم أمس (29 يونيو/حزيران الجاري).

"سفر برلك" سرد سياسي عبر  أربعة شبان

يروي "سفر برلك" قصة أربعة شبان من السعودية ولبنان وسوريا اجتمعوا على فكرة استقلال الدول العربية عن الدولة العثمانية في سنة 1914، وهي الفترة التي رافقها صدور فرمان السلطان العثماني محمد رشاد الخاص بتجنيد جميع الذكور من مواليد ما بين (1869-1882) في الأراضي الخاضعة لحكم العثمانيين، والمعروفة في دراما البيئة الشامية بـ"أخذ العسكر"، وجاء القرار مدفوعاً بالتحالف مع دول المركز ضد الدول الحلفاء فيما يعرف بالحرب العالمية الأولى.

لكن قصة "سفر برلك"، على عكس الأعمال التلفزيونية السابقة التي تناولت القصة في الديار الشامية، فإنه يروي قصة متعددة الطبقات توازن بين الأسباب التي أدت إلى انطلاق الثورة العربية الكبرى  بقيادة الشريف الحسين بن علي من الأراضي الحجازية، وانضمام سوريا إلى جانب لبنان ومناطق الحجاز إليها.

التركيز الأكبر في "سفر برلك" من جانب السرد السياسي للأحداث التاريخية يسلط الضوء على دور جمعية "الاتحاد والترقي" (لاحقاً أصبحت تركيا الفتاة) في تسريع انهيار الدولة العثمانية، وخسارتها للحرب العالمية الأولى أيضاً.

المسلسل يقدم أحداثا مكثفة السرد توضح مجموعة من الأسباب التي سارعت بانهيار السلطنة، ليس أولها إعلان النفير العام، بل سبقته مجموعة من العوامل، بما في ذلك ملاحقتها للتيارات السياسية العربية، إضافة إلى مصادرتها لمصادر الغذاء الأساسية للسكان ما تسبب بالمجاعة الجماعية، وتهجير سكان المدينة المنوّرة إلى الغوطة وبيروت، على سبيل المثال لا الحصر.

يوضح المسار التاريخي للمسلسل أيضاً دور أحمد جمال باشا (عابد فهد)، المعروف بـ"السفاح"، في هزيمة العثمانيين وانهيار إمبراطوريتهم التي استمرت قرابة 400 عام، بعدما استطاعت عشيقته سارة آرنسون (ميرفا القاضي) اختراق مكتبه، وتسريب الخطط العسكرية لدول الحلفاء، وبالتحديد إنكلترا مما ساعدهم على استباق العثمانيين بخطوة في جبهات سيبيريا والقوقاز، وكان هذا أبرز الأسباب التي أدت إلى نقص المؤن للجيش العثماني، وانهياره على جبهات القتال.

يسرد لنا هذه القصة المأساوية أربعة شبان هم يحيى (أنس طيارة) من دمشق، وعبد الرحمن (عبد الرحمن اليماني) من المدينة المنوّرة، وفايز (وسام فارس) وفريد (بيو شيحان) من بيروت، الذين جمعتهم معاً دراستهم الجامعية في إسطنبول، وكان لهم لقاء مع عبد الكريم أفندي (طلال الجردي)، واحد من الأسماء التي أعدمها جمال باشا. يعيش الشبان الأربعة قصص حب مختلفة يجمعها التصدي لسياسة جمال باشا الانتقامية من التيارات العربية، قبل افتراقهم في ظروف مختلفة بعد انسحاب فايز من المجموعة بسبب طموحه السياسي، وخلافه على مستوى الطبقة الاجتماعية والصداقة المتينة التي كانت تربطه مع فريد، بينما ينتهي المطاف بعبد الرحمن ويحيى على جبهة القوقاز.

خليط سياسي وعاطفي واجتماعي

لكل واحد من الأصدقاء الأربعة قصة عاطفية كانت لها نهاية مختلفة. يرتبط يحيى بعلاقة مع سمر (نانسي خوري)، فتاة من الأرستقراطية الدمشقية تريد الانتقام من أحد الضباط العثمانيين الذي أمر بقتل والدها، وفي النهاية يتزوجان في دمشق بعد دخول الجيش العربي إليها.

تنعكس القصة المأساوية لسكان المدينة المنوّرة على عبد الرحمن بالنهاية السعيدة بعدما التقى بحبيبته هند (ميلا الزهراني) في غوطة دمشق، بينما تكون نهاية قصة فريد ومي (ريان حركة) مأساوية، وهي شقيقة فايز، تنتهي القصة بـ"جريمة شرف" في أحد المنازل الدمشقية، يبدو أن هذه القضية الإشكالية أصبحت من الكليشهات الأساسية لأي عمل تلفزيوني مصوّر في سوريا، في حين يرتبط فايز بعلاقة عاطفية مع هنا (نتاشا شوفاني) لتحقيق مناصب سياسية، فهي ابنة بهيج بيك (كميل سلامة) مدير مكتب جمال باشا.

ضمن هذه القصة متعددة الطبقات، وطاقم التمثيل الذي قدم أحد أهم الأعمال التلفزيونية على مستوى الأداء، مع بعض الملاحظات الجانبية على أداء فهد، يتم سرد قصة متكاملة عن واحدة من أهم الحوادث التاريخية في القرن الماضي. وفقاً لبيان مجموعة الترفيه السعودية، فإن "سفر برلك" ضم نحو 95 ممثلاً وممثلة للأدوار الرئيسية، ونحو 120 ممثلاً وممثلة مساعدة لتصوير ألف مشهد، كما ظهرت مجموعة من الأسماء في مشهد واحد أو مشهدين، كما الحال مع جورج خباز الذي أدى دور ضابط عثماني على خط جبهة القوقاز، أو علاء الزعبي الذي أدى دور أحد المثقفين العرب الذين أعدمهم جمال باشا في 6 أيار (مايو) 1916.

على عكس طاقم التمثيل الذي استطاع التعامل مع التقلبات العاطفية والنفسية للشخصيات، فإن فهد لم يستطع الإمساك بتفاصيل شخصية جمال باشا، بقدر ما قدم دوراً يسير على خط واحد بدون أي تطور في الأداء في ظل الظروف التي كان يعيشها، حتى على مستوى اللغة، فإن اللغة العربية التي استخدمها فهد في المسلسل، ومعه فادي صبيح الذي يؤدي دور فخري باشا، والي المدينة المنوّرة، لم تكن مقنعة مقارنة بطبيعة الشخصيات التي يؤديان دورها. حتى يومنا الراهن، أرى أن فايز أبو دان الذي أدى دور جمال باشا في الجزء الأول لـ"أخوة التراب" (نجدت إسماعيل أنزور وحسن م. يوسف)، هو الوحيد الذي استطاع أداء الشخصية بطريقة مميزة، مضفياً عليها في بعض المشاهد جانباً كوميدياً.

في الضفة الأخرى من طاقم التمثيل المتنوّع، استطاع اليماني الإمساك بتفاصيل شخصية عبد الرحمن المعقّدة بصراعاتها الداخلية، وأيضاً طيارة بشخصية يحيى، وهي شخصية مختلفة تماماً عن شخصية نورس باشا في "الزند: عاصي الزند"، هنا يؤدي طيارة دور واحد من الشبان القوميين الذين يتوقون للاستقلال، وتكوين عائلة مع حبيبته سمر.

ومثلهم فارس الذي قدم شخصية فايز، الشاب الطموح، والباحث عن مكاسب سياسية بدعم من بهيج بيك، غير مكترث بالمجموعة التي شاركها النشاطات السياسية في إسطنبول، ولديه مرونة بالانتقال إلى الجانب الرابح في المعركة. حتى خوري بالاشتراك مع شيحان، الزهراني وحركة، فإنهم أتقنوا جميعاً عكس التقلبات التي تعيشها كل شخصية بمعزل عن الأخرى. ولا يخفَى أن براعة الحائز على جائزة سيزار أمين بوحافة بتقديمه خلفية موسيقية التي وضعت لتتناسب مع الأحداث العاطفية والمأساوية للشخصيات، وما رافقها من مواويل بصوت إبراهيم الحكمي وسناء موسى، كان لها دور بارز في هذا النجاح.

انتقالات بين إسطنبول ودمشق والمدينة المنورة

ومن خلال الخليط السياسي والعاطفي والاجتماعي لسرد أحداث "سفر برلك" ينتقل حجو بين إسطنبول، والمدينة المنوّرة ودمشق. وأرى أن قيمة العمل البصرية تأتي من استعادته لأدق تفاصيل المدينة المنوّرة في تلك الحقبة، حيثُ تم بناء مدينة خاصة لمحاكاة الفترة الزمنية التي جرت فيها أحداث المسلسل، والتي تكمن أهميتها بطريقة توزّع المنازل، والتقاليد الاجتماعية والعائلية في تلك الحقبة. ومثلها أيضاً إسطنبول التي تم بناء مدينة خاصة بها، حقيقة عندما شاهدت الحلقات الأولى توقّعت أن يكون حجو قد صوّر هذه المشاهد في إسطنبول الواقعية لا المتخيلة. أما في حالة دمشق فإن التكليف والتزييف البصري يختفي تماماً، مشهد واحد في الحلقة الثالثة مدته نحو 30 ثانية يبدأ من لحظة خروج يحيى من محطة الحجاز مروراً بواحدة من حواري الشام الواقعة داخل السور، يؤكد أن أعمال الفانتازيا الشامية أغرقت الشام بتصويرات خاطئة عن الأزياء، والمهن اليدوية والتنوّع السكاني، فهو يحاول التقاط تفاصيل دقيقة في هذا الجانب تجعله يقدم عملاً متكاملاً يعكس التحولات الاجتماعية التي طرأت على المدينة المنوّرة ودمشق في تلك الفترة.

الميزة الأخرى التي تضاف إلى نجاح "سفر برلك" أن المعارك والتفجيرات والقتال بين الجنود على جبهة القوقاز، مع مشاهد تهجير سكان المدينة المنوّرة، يظهر أنها صممت بمعايير هوليوودية، فقد استفاد الطاقم الذي يقف خلف الكاميرا من المساحة الكبيرة على الحدود الروسية لتصميم المعارك التي كانت على جبهة القوقاز. في البحث عن الأسماء التي عملت خلف الكاميرا، نجد أن "سفر برلك" استعان بأسماء هوليوودية، دون أن نغفل ذكر المؤثرات البصرية التي كانت مقنعة ومقبولة مقارنة بالأعمال الدرامية الأخرى، وكذلك الأزياء وتصفيف الشعر والمكياج الذي كان بعيداً كل البعد عن التنميط المعتاد عليه في الأعمال التاريخية.

يبرز من بين هذه الأسماء، المخرج أليخاندرو توليدو، الذي أشرف على إدارة المعارك والتفجيرات والقتال بين الجنود، يسجل له في السابق تعاونه مع برايم فيديو في مسلسل "Boundless"، بالإضافة إلى ريكاردو كروز، الذي أخرج مشاهد معارك الخيول وإدارة الحشود، هو الآخر له العديد من التعاونات مع كبرى شركات الإنتاج الهوليودية، بما في ذلك باراماونت بيكتشرز في فيلم "Transformers: The Last Knight". أما تميز المؤثرات البصرية فكان ثمرة للتعاون بين مانوليس إبراهيم، الذي اشتغل سابقاً على عمل "أهو ده اللي صار"، وبيترو كوكو الذي يبرز كواحد من الأسماء التي تعاونت مع مارفل استديو في مجموعة أفلام، بينها فيلم "Captain Marvel" الذي جمع في شباك التذاكر 1.1 مليار دولار أميركي. بينما كان تصميم الأزياء وتصفيف الشعر والمكياج بإدارة ياسمين القاضي وأليسيا لاروخا.

بصمة للراحل حاتم علي في "سفر برلك"

استطاع الليث حجو في "سفر برلك" بالتعاون مع طاقم العمل أمام أو خلف الكاميرا، وحتى الطاقم التقني أن يقدم عملاً تلفزيونياً منتجا بمعايير هوليودية عالية الجودة من النادر رؤيتها في الدراما العربية. فالمسلسل وثيقة بصرية تاريخية لسرد الحقائق المؤلمة والمأساوية التي وقعت لسكان الأراضي العثمانية في المرحلة الأخيرة من حكم العثمانيين. وهو متوازن في سرده لأبرز الأسباب التي أدت إلى لحظة الشقاق بين العثمانيين من طرف، والعرب من طرف آخر، مبتعداً عن الحوارات المعقّدة بين الشخصيات الرئيسية، يجمعها سرد تاريخي للوقائع من جوانب مختلفة ذكرها المؤرخون لتلك المرحلة.

أخيراً، فإن "سفر برلك" المهدى إلى روح الراحل حاتم علي، لا يترك مجالاً لتجاهل بصمته الفنية التي حفظناها في أعماله السابقة، وهذا لا ينقص من الجهد المبذول لحجو أو باقي الطاقم، بل يؤكد على أن الجميع استطاعوا إكمال ما بدأه علي بتقديمهم وثيقة بصرية متوازنة، تجعل الجمهور يعيش مع الشخصيات الصراعات العاطفية والنفسية، ويفهم أكثر الأسباب التي أدت إلى دخول المنطقة مرحلة سياسية جديدة، لم تكن بالتأكيد أفضل من المرحلة السابقة.