icon
التغطية الحية

هنري ماتيس.. فنان الغرب المتماهي مع ألوان الشرق

2023.09.15 | 23:19 دمشق

فنون
+A
حجم الخط
-A

حين نتحدث عن هنري ماتيس فإننا نتناول بلا شك أحد عمالقة الفن التشكيلي في مطلع القرن العشرين، فهو واحد من أهم الأساتذة الذين تركوا بصمة واضحة ومؤثرة على مسيرة تطور هذا الفن، وذلك في فترة زمنية تميزت بتعدد الأساليب الفنية المبتكرة وشهدت ولادة العديد من المدارس الفنية الحديثة والمصحوبة بمتغيرات كبيرة على الساحة الفنية والمجتمعية، فكان من الصعب بروز أي فنان لا يمتلك رؤية فنية تشكيلية خاصة ومميزة جدا.

لوحة من أعمال الفنان هنري ماتيس

ولد ماتيس في (لو كانو) شمالي فرنسا عام 1869 وتوفي عام 1954، كان والده تاجر حبوب ميسور الحال، وأمه فنانة هاوية. سارت حياته على نحو عادي دون أن يبدي أي اهتمام بالرسم حتى عام 1890، حيث أقعده المرض فأعطته أمه كتابا عن الفن ليقرأه في فترة نقاهته.

أثار ذلك الكتاب اهتمام ماتيس، وبدأ يجرب الألوان، ثم قرر بعدها أن يتلقى دروسا في الرسم، وحصل بعد ذلك على إذن والده ليتابع دراسته في باريس. بدأ الدراسة في أكاديمية جوليان لفترة من الزمن ثم في مدرسة الفنون الجميلة العليا في مرسم (غوستاف مورو) الفنان الرمزي المعروف، حيث تعرف على (رووه) و(ماركيه) الذي أصبح صديقه الحميم وعرفه على الحياة في باريس.

درس ماتيس الطبيعة مع استاذه وتعرف على الفنانين الكبار والهامين أمثال (شاردان) و(بوسان)، ونقل عنهم، وبدا في ذلك الوقت أنه فنانا تقليديا في فنه حتى تعرف على الانطباعيين عن طريق صديقه (جون رسل) والذي كان بدوره صديقا لـ (مونييه)، فبدأت ألوانه بالإشراق شيئا فشيئا، إلا أن (سيزان) وأعماله كان لهما التأثير الأكبر على فنه؛ إذ كانت أعمال الفنان (سيزان) مصدر إلهام له، وخاصة لوحته الشهيرة (المستحمات) التي استحوذت عليه وظل يكرر موضوعها في لوحات عديدة وبأشكال مختلفة طيلة مسيرته الفنية. كما تأثر بتجاربه عن مواضيع الطبيعة الصامتة، فبدأ يبني الشكل بسطوح أكثر تبسيطا وتلخيصا من دون أن يؤثر ذلك على ولعه بالألوان.

وبين عامي 1905 و1908 انضم ماتيس إلى المدرسة الوحشية حيث بدأت ألوانه تزداد حدة، حتى سافر إلى المغرب العربي عام 1911، هذه الرحلة التي جعلته يتخلى عن الوحشية بشكل نهائي ليبدأ مشواره الفني الخاص والاستثنائي.

لوحة من أعمال الفنان هنري ماتيس

كان لرحلته إلى المغرب وزياراته المتكررة لها بالغ الأثر على أسلوبه وتطور رؤيته التشكيلية، ويمكن اعتبارها نقطة تحول فاصلة في مسيرته الفنية، وهو لم يخف انبهاره بالفن الشرقي الزخرفي المعماري القائم على الرقش والتزيين، فقد أذهله التناغم ما بين الخطوط والألوان وجذبته مشاعر الراحة والهدوء المرافقة لتأمل هذه الأعمال المفعمة بالألوان الصافية النقية، حيث يحتل كل لون مكانه دون أن يؤثر على اللون المجاور له بتناغم مبهج ومثير.

كل ما سبق، دفعنا للقول إن ماتيس قدم فنا مميزا يحمل خصوصية لونية وشكلية وبأسلوب جديد وفريد في وقته، فهو مختلف عن صديقه (بيكاسو) مثلا، الذي كان يلح على التراجيديا وعلى الصراع والحدة، وربط بيكاسو الفن بتقديم وجه البشاعة والظلم والمأساة في العالم بينما يقدم لنا ماتيس الوجه الآخر للفن، الوجه المضيء، وجه الفرح والحياة والبهجة؛ فعندما ننظر إلى لوحاته نشعر بالمتعة البصرية واللونية، ونستشعر جمال الحركة والتكوين، فقد كان يهدف من خلال فنه إلى تقديم الراحة للمشاهد، ويسعى إلى إسعاده وإزاحة الهموم عن كاهله بدلا من تقديم وجه المأساة والبشاعة التي يعايشها يوميا. لذلك يعتبر الكثير من النقاد أن ماتيس يمثّل الطرف النقيض لبيكاسو في مجال التعبير الفني، رغم الصداقة والمودة التي كانت تجمعهما.

لوحة من أعمال الفنان هنري ماتيس

كان ماتيس يصف فنه بأنه "فن يهب العين المتعة البريئة". هذه الرؤية الذاتية لهذا الفنان ما كانت لتتبلور على هذا النحو لولا تأثره بفنون الشرق الإسلامية مستندا إلى ولعه بالألوان الصافية، هذا الولع الذي قاده في بداية مشواره الفني للانضمام إلى الوحشيين كما ذكرنا آنفا. ولمن لا يعلم، فإن سبب هذه التسمية يعود لاعتماد مجموعة من الفنانين على الألوان بشكل صارخ للتعبير في اللوحة التشكيلية.

وإذا كان عشقه للألوان وقدرتها على التعبير ساقه للانضمام إلى المدرسة الوحشية، فإن زيارته للمغرب العربي واطلاعه على فنون الشرق عن كثب، قادته إلى تهذيب أسلوبه ليوظف ألوانه بطريقة شاعرية محببة ومريحة لعين الناظر، فاشتق لنفسه طريقا خاصا به يميزه عن غيره من فناني عصره برؤية فنية متميزة، جمع فيها متانة الشكل ونضارة اللون مع شيء من الدلالات الرمزية، التي تضفي على أعماله جاذبية خاصة.

كل ذلك كان قد بدأ بالتبلور قبل الحرب العالمية الأولى، هذه الفترة التي كان يسودها الاضطراب والقلق على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، وكأن ماتيس كان يريد أن يأخذ الناس إلى عالم مختلف ويسلخهم عن واقعهم القاتم ليضعهم في عالم جميل وهادئ ولطيف، بخلاف ما فعل فنانو "الدادائية".

وفي هذا يقول الناقد (هربرت ريد): "كان ماتيس يعتقد في تلك الأيام أن الفن هروب من القباحة والضيق، حيث أكد على هذا حين تحدث عن فن متكامل هادئ، خال من أي موضوع معقد أو مثير؛ فن معني بالعاملين فكريا وللأدباء والناس المجربين حياتيا، تبسيط الحياة، راحة الفكر بعد التعب، فن يمكن أن نشبهه بالمقعد المريح الذي يستريح فيه الإنسان المجهد بعد تعبه".

هذا الكلام يؤكد على أن الفن من وجهة نظر ماتيس عبارة عن وسيلة أساسية تساعد المتلقي على الحصول على ما يستحق من المتعة والراحة، وإلى إيجاد ركن هادئ وجميل يغيب منه القبح في عالم مظلم وكئيب، وقد توصل إلى هذه الرؤية وإلى تحقيق هذا الهدف عبر تجربة فنية خاصة مستلهمة من التزيينات الزخرفية التي شاهدها في رحلاته المشرقية، حيث كان يصرح دائما بقوله: "لقد أنقذنا الشرق... الإلهام جاءني من الشرق".

لوحة من أعمال الفنان هنري ماتيس

رغم ذلك، لم يكن ماتيس كغيره من المستشرقين، فهو لم يحاول نسخ الحياة في الشرق، أو نسخ الزخارف وإقحامها في أعماله بشكل واضح وصريح، إنما استلهم منه فكرة التناغم اللوني، وانسيابية الخط الذي يتصل على اللوحة ليخلق نوعا من التوازن المدهش مع أكبر قدر من التبسيط والاختزال. وفي هذا الأمر يقول ماتيس أيضا: "إذا وضعت على لوحة بيضاء بعض الألوان، زرقاء أو حمراء أو خضراء، كل لون يسبق الآخر تقل أهميته عندما نضع اللون الثاني، ولهذا عليّ أن أخلق علاقة بين الأحمر والأبيض في اللوحة، وحين أضع الأخضر مع الأصفر مثلا تنشأ علاقة أخرى، وهكذا يدعم كل لون الآخر بدلا من أن يحطمه، وعلى كل لون أن يبني الآخر ويساعده على الوصول إلى الفكرة... نصل في النهاية إلى مرحلة أصبح كل جزء من اللوحة قد توازن ووجد علاقة محددة مع الآخر ولم يعد ممكنا إضافة ضربة واحدة دون أن نعيد رسم اللوحة كلها".

وبالعودة إلى بيكاسو، فقد عقب على أعمال ماتيس لاحقا بقوله: "إذا كان هناك نقطة حمراء في إحدى لوحاتي فلن تشكل هذه النقطة لب العمل، وذلك لأني أكون قد رسمت اللوحة بدون أي اعتبار لهذه النقطة، ويمكنك إزالتها دون أن تتأثر اللوحة بسبب ذلك، لكن في لوحات ماتيس من غير المعقول أن تزيل هذه النقطة الحمراء مهما صغرت، لأنك بذلك تدمر اللوحة بأكملها".

كلام بيكاسو يدلل بشكل واضح على أن ماتيس استطاع الوصول إلى درجة المثالية فيما يخص التوازن اللوني، لم يسبقه إليها أحد من الفنانين. فاللون عند ماتيس تتحدد قيمته بالألوان الأخرى ويأخذ أهميته من هذه العلاقة، وتختلف هذه الأهمية للون ذاته من لوحة لأخرى بحسب توظيفه في مجاورته لبقية الألوان، وهكذا استطاع أن يخلق علاقة متجددة باستمرار بين مختلف الألوان دون توقف، يضعها على اللوحة بانسيابية وهدوء مستندا إلى حدسه في لحظة الخلق الفني دون الاكتراث إلى النظريات التي تحدد قيمة الألوان المجردة أو أي تفسيرات أدبية أو نفسية أو رمزية.

لوحة الرقص من أعمال الفنان هنري ماتيس

إن أهمية البحث الذي قدمه لنا هذا الفنان يكمن في أنه يتسق مع بحوث عديد من الفنانين الآخرين في بداية القرن العشرين، الذين كانوا يحاولون إعادة صياغة مفاهيم الفن التشكيلي الحديث ووضع أسس وقيم فنية جديدة وعلى رأسهم الفنان الكبير سيزان الذي أرسى قواعد الشكل بصياغة جديدة ونظمه ليكون التكوين في العمل الفني التشكيلي ركيزة أساسية تبنى عليها اللوحة. أما ماتيس فقد سعى إلى إعادة تنظيم اللون في اللوحة ليعطيه أقصى إمكانات التعبير الفني من خلال علاقته بالشكل وببقية الألوان، فإذا كان معظم النقاد يعتبرون سيزان سيد الشكل فإنهم لا يترددون في وصف ماتيس بأنه "سيد الألوان".