icon
التغطية الحية

الحرية في الفن التشكيلي الحديث وإشكالية التذوق الفني

2023.06.22 | 07:09 دمشق

آخر تحديث: 22.06.2023 | 07:09 دمشق

بوب آرت
نموذج من (البوب آرت)
+A
حجم الخط
-A

إن فكرة الحرية في الفن، أو التحرر من القيود المفروضة على الفنان التشكيلي، كانت السبب الرئيسي والعامل الأهم في نشوء وتكون المدارس الفنية والتيارات الحديثة التي نتج عنها أعمال في غاية الروعة. وكان مبدأ الحرية الفنية هو المحرك الذي حفز الفنان على أن يتجرأ لينجز أعمالا ما كان لسابقيه أن يتخيلوا وجودها أو حتى اعتبارها أعمالا فنية.

هكذا كانت بداية رحلة الفن التشكيلي الحديث؛ التحرر من قيود الماضي والانطلاق إلى فضاءات في اللون والشكل لم يكن لأي فنان أن يطأها لو أنه ظل متقوقعا ضمن الأطر التي يفرضها المجتمع أو النقد أو الأكاديمية، فعملية الإبداع الفني لا يمكن أن تتحقق من دون أن يتحرر الفنان الخلاق من كل ما يعيقه عنها، حتى لو أدى ذلك إلى النبذ من قبل من لا يتقبلون مثل تلك التغيّرات والذين عادة ما يكونون من المؤثرين على الرأي العام، وفي ذلك أمثلة عديدة لفنانين عاشوا وماتوا وهم لا يؤبه بهم حتى أتى من يثمن تجربتهم ويدرك القيمة الفنية العظيمة التي تكتنفها أعمالهم.

فالحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الفن التشكيلي الحديث لم يكن ليصبح على ما هو عليه، ولم تكن الأعمال الفنية الرائعة التي تعرض الآن في أرقى المتاحف لترى النور لولا أن حدثت سلسلة من حركات التحرر الخصبة.

وبعد أن وصل الفن التشكيلي الحديث إلى ما وصل إليه؛ لنا أن نتساءل عما إذا كانت الحرية قد بلغت درجة جعلت الفن معها في خطر الهلاك، كما كاد له أن يختنق من قيود المدرسة الكلاسيكية سابقا؟ ألم نصل لدرجة وصل فيها الفن الحديث إلى مرحلة عقيمة انهارت فيها جميع القيم الجمالية والشكلية التي بُني عليها الكثير من فلسفات الفن حتى بدا لنا أن مفهوم الفن بحد ذاته بحاجة إلى إعادة تعريف؟

في ستينيات القرن الماضي تقريبا، ظهر تيار جديد يمكن وصفه بأنه ضد التصوير وضد النحت وهو ضرب من الدادائية الجديدة، أخذ ينتشر في أنحاء العالم مدعوما بدعاية ورعاية من قبل المنظمات والمؤسسات الليبرالية التي تقدس مبدأ الحرية الفردية بشكل عام. من أبرز مظاهر هذا التيار ما بات يعرف بالفن الشعبي (Pop Art) الذي ظهر أولا في أميركا ومهّد لما يعرف اليوم بـ "الفن المفاهيمي"، هذا الفن الذي يعنى بالفكرة أكثر من ماهية العمل بحد ذاته، وقد عرفت هذه الفترة وسميت لاحقا بـ "مرحلة ما بعد الحداثة".

اكتسب التيار هذا الاسم (الفن الشعبي/ Pop Art) لأن دعاته يضعون أنفسهم في مستوى الناس على الرغم مما في ظاهره من تحدٍّ للذوق العام؛ فممارسة هذا النوع من الفن لا يتطلب قدرا من المهارة أو الثقافة الفنية، فهو يقتصر كيفيا على تجميع أشياء مألوفة من نتاج الحياة الحديثة وتقديمها على أنها أعمال فنية كصور مقتطعة من المجلات (صور فنانين أو مشاهير أو سياسيين) أو قطع من إعلانات تجارية أو أي شيء يمكن توظيفه في العمل إما لصقا أو بأي طريقة أخرى.

A picture containing drawing, painting, illustration, child artDescription automatically generated
 لوحة من الفن الشعبي أو ما يسمى بال (Pop Art)

وعلى خلاف التكعيبيين، فإن هؤلاء لم يستطيعوا تمويه هذه الأشياء أو تبديل هويتها لتخدم فكرة العمل الفني وإنما كانت هي العمل بحد ذاته، وبما أن ممارسة هذا النوع من الفن لا يتطلب قدرا من المهارة أو الحرفية، وما دام أي شيء يمكن أن يكون ضد التصوير وضد النحت، فباستطاعة أي شخص أن يتخذ هذا المجال حرفة له، ولذلك فقد شهدنا تضخم في عدد (الفنانين) والذين هم غالبا مجموعة من الهواة يعوزهم القليل أو الكثير من المهارة وهم على درجة عادية من الثقافة الفنية. وإن هذا النوع من النتاج الفني إنما أتيح له المجال ليعرض في الصالات فقط لأنه غريب ومثير للدهشة حيث كان عدد من الناس متأثرين بالدعاية، يجدون هذه الأعمال أكثر قيمة من اللوحات والمنحوتات الحقيقية فقط لأنها خارجة عن المألوف ومثيرة للجدل.

إذن، فإن هذا الميل الشديد للتخريب والعبادة لكل ما هو جديد وغريب، وإن كان هذا الجديد مبتذلا وفارغا، هو جوهر الداء وهو السبب في الوصول لهذه المرحلة من العقم في النتاج الفني.

كل هذا ما هو إلا نتيجة لتراكم التجارب والأفكار التي بني عليها الفن التشكيلي الحديث، حيث أنه يمتاز بقدرته على استثارة ردود الفعل من حيث نبذه للمألوف وفتح المجال للابتكار والإبداع دون وضع قيود، إذ سعى إلى الوصول إلى جوهر الأشياء من خلال تجريدها وتغيير ماهيتها ليقدمها على النحو الذي شهدناه، وهو إذ ذاك فإننا نستطيع القول إن الفن التشكيلي الحديث هو فن كثير المتطلبات، فعلى طوال مدته فإنه يفرض على الفنان المبدع الكثير من العمق والكثير من الابتكار مع إعمال الخيال الخصب، ومع مرور الوقت وتكاثر المدارس الفنية إلى حد كبير بدا الأمر كما لو أنه لم يعد هناك ما يستطيع الفنان فعله ليكون مميزا ومبتكرا، أو على الأقل غير مقلد لغيره، مما دفع البعض إلى ممارسة الفن الشعبي (Pop Art) وما تلاه، واعتباره صيحة جديدة في الفن التشكيلي فظهرت إشكالية ليست بالجديدة كليا وإنما لم تكن بارزة كما هي اليوم ألا وهي إشكالية التذوق الفني لدى المتلقي العادي.

التذوق الفني

يمكن اعتبار عملية التذوق الفني عملية تفاعلية ما بين طرفين، الطرف الأول هو الفنان متمثل بعمله الفني والطرف الثاني هو المتلقي الذي ينظر إلى العمل الفني ويحاول أن يستمتع به. وعليه، فإن نجاح هذه العملية يقع على عاتق الطرفين على حد سواء، لذلك فإن عملية التذوق الفني لا تأتي على مستوى واحد من النجاح دائما وإنما تتفاوت مستويات نجاح هذه العملية بناء على فهم وإدراك كل من الطرفين لدوره، فيجب على الفنان أن يكون واعيا ومدركا ليما يقدمه من الإنتاج الفني، وبالمقابل فإنه يقع على عاتق المتذوق أن يكون على مستوى من الوعي والمعرفة ليتمكن من الاستمتاع بالعمل الفني وفهم ما يرمي إليه الفنان من خلال العمل، وكنتيجة بديهية فإن أي خلل بهذه العوامل من طرف الفنان أو المتلقي يؤثر على مدى نجاح عملية التذوق الفني.

ومما يعين أيضا على نجاح هذه العملية بعض الشروحات الأدبية التي يقدمها نقاد الفن عن العمل أو بعض المعلومات عن الفنان وحياته أو من الممكن أن يكون عنوان العمل عاملا مرشدا للمتلقي فيتنبه لبعض القيم الجمالية الكامنة في العمل التشكيلي وخاصة إذا كان العمل أقرب إلى التجريد أو الرمزية.

إشكالية تذوق الفن الحديث

لقد كانت عملية التذوق الفني فيما مضى عملية يسيرة على المتلقي، حيث كان يستند إلى فطرته الجمالية الخالصة وكانت الأعمال الفنية مفهومة وتقييمها جماليا ليس بحاجة إلى الكثير من المعرفة والثقافة الفنية، لأنها أعمال واقعية واضحة المواضيع والمضامين تراعي شكليا ولونيا الذوق العام والجماليات المتعارف عليها، وما لبثت هذه العملية حتى بدأت تتعقد وتتعسر رويدا رويدا مع تطور الفن الحديث، حيث أتيح للفنان كامل الحرية في تقديم ما يريد على النحو الذي يشاء، وبات على المتلقي أن يجري لاهثا في محاولة فهم وإدراك هذه الأعمال التي قد تكون في بعض الأحيان ضربا من العبث، وكان لزاما على من يرغب في تذوق الفن الحديث أن يقطع دربا طويلة لدراسة وتحليل مفاهيم المدارس الفنية والتشعبات الناشئة عنها، وعليه أن يتعرف على أبجدية كل مدرسة ، بل إلى أبجدية كل فنان حيث أصبح لكل فنان أبجديته الخاصة، وعليه فإن المتذوق للفن الحديث عليه أن يكون متتبعا ومطلعا على كل جديد، لذلك نجد هذا الإرهاق والجهد في فهم الفنون الحديثة لما فيها من تنوع في الخامات وآلية الطرح والأساليب المختلفة، فبدا أن هذه الفنون لا تخاطب إلا من يتحسسون المزايا الشعرية والشكلية في العمل فيبدو لعامة الناس عملا لامعنى له ولا يحرك فيهم شيئا من الانفعالات الجمالية، ومن ناحية أخرى فإن هذا النوع من الأعمال لا يتيح للنقاد إلا مجالا ضيقا من الشروحات الأدبية التي قد تعين المتلقي على تذوق العمل الفني، ولربما في بعض الأحيان كانت تلك الشروحات أكثر إيهاما من العمل ذاته، فيشعر المشاهد بأنه قد خذل وحرم من المتعة مترافقا بشعوره بالإحباط.

A black and white brushstrokesDescription automatically generated with low confidence
لوحة للفنان الأميركي فرانز كلاين

كل ذلك خلق ميلا لدى العامة إلى الترحيب بكل عمل يكون قابلا للشرح والتأويل وكل عمل يخاطب تفكيرهم المنطقي ولا يجبرهم على التأمل في أشياء وصور غريبة لا يمكن سبر أغوارها.

كل ما سبق أدى إلى إحداث فجوة واسعة ما بين الفنان وجمهوره مما انعكس سلبا على عملية التذوق الفني، هذه العملية المرتبطة بكلا الطرفين، وهي التي تحدد القيمة الجمالية للعمل الفني، وإن اختلال هذا التوازن أدى بطبيعة الحال إلى اختلال مفاهيم الجمال بشكل عام، ولذلك بتنا نسمع أصوات تنادي بالعودة إلى الفن التشبيهي حيث أن النزعة اللاشكلية لم تعد تلقى ذلك الرواج الذي أصابته في منتصف القرن الماضي.

وكردة فعل على كل ما سبق فقد ظهر فعلا في السنوات الأخيرة نزعة شديدة الواقعية بشكل مثير للدهشة، ساعد على انتشارها ورواجها تطور وسائل التواصل وتطور الأدوات الفنية، والأهم من كل ذلك ظمأ الجمهور لمشاهدة أعمال فيها قدر كبير من البراعة والحرفية، وسأمهم من تراكم التطرفات الجنونية اللاشكلية والتي برأيهم غالبا ما تكون فارغة من أي قيمة فنية وجمالية.

خلاصة الأمر فإننا نستطيع القول أن الفن التشكيلي الحديث إنما هو في تطور مستمر ودائم، وإن لكل صيحة في الفن دعاتها ورافضيها، وإن ميزة الحرية التي يتمتع بها الفنان المعاصر لا يمكن ولا ينبغي الرجوع عنها، ولم يعد بالإمكان إعادة تقييده بأسلوب أو نمط محدد، وإن نتج عن هذا التحرر أعمال منفرة وغير لائقة فإنه بالمقابل ما فتئ يأتي بابتكارات مدهشة وأعمال على درجة عالية من الرقي تتوفر فيها جميع مزايا العمل الفني الجميل من عمق في المعنى إلى متانة الشكل وتوازن اللون.