هل هي أزمة اقتصادية عابرة؟

2022.07.26 | 06:31 دمشق

هل هي أزمة اقتصادية عابرة؟
+A
حجم الخط
-A

منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، طفت على السطح مجموعة من الأزمات المتصلة بالغذاء والطاقة، وهي أزمات زادت من ترنح الاقتصاد العالمي بعد النكسة التي أصابته جراء جائحة كورونا التي ضربت الاقتصاد العالمي، وأزمة التغير المناخي التي باتت واحدة من أخطر المشكلات التي تواجه كوكبنا. أما على الصعيد السياسي، فقد ترافقت هذه الأزمة الاقتصادية مع وهن واضح أصاب الديمقراطيات الغربية يتجلى في ترددها وتخبطها في مواجهة الغزو الروسي، بحيث تبددت الصورة التي كانت مرسومة لتلك الدول، ولا سيما ما يتصل بقدرتها العسكرية وحضورها على الساحة الدولية.

الغزو الروسي كشف ضعفا هائلا في المنظومة الغربية في الجانبين الاقتصادي والسياسي، ولا سيما مستوى حضور هذه الدول على الساحة الدولية

بعيدا من الآراء التي تتحدث عن استراتيجية غربية تهدف إلى استدراج روسيا إلى داخل أوكرانيا، بغية ضربها وتحجيم دورها،  وهي آراء لا يبدو أنها تثبت أمام الوقائع، وبخاصة مع التصريحات الغربية التي رأيناها في الأيام الأولى من الحرب، والتي كانت تثبط من عزيمة الأوكرانيين وتدعوهم على نحو مضمر إلى القبول بالهيمنة الروسية، أقول بعيدا من هذه الآراء التي تمنح أصحابها الشعور بالتعالي والعلم ببواطن الأمور، والنظرة العميقة إلى الأحداث والوقائع، بدل النظرة السطحية التي ينظر بها الآخرون (السطحيون) إلى الصراع العالمي، فإن الغزو الروسي كشف ضعفا هائلا في المنظومة الغربية في الجانبين الاقتصادي والسياسي، ولا سيما مستوى حضور هذه الدول على الساحة الدولية. هذا الضعف المشار إليه هو حصيلة لترهل أصاب الديمقراطيات الغربية، كشف عنه الغزو الروسي الذي كان أول اختيار حقيقي لقوة الديمقراطيات الغربية منذ نهاية الحرب الباردة.

 في الجانب الاقتصادي، تبدو القضايا أعلاه أعراضا لأزمة الرأسمالية العميقة، وهي أزمة كان لا بد أن تظهر مهما حاول النظام الرأسمالي التغطية عليها أو تأخيرها. إن أزمات الرأسمالية، كما قال ماركس، دورية ناتجة عن طبيعة الرأسمالية نفسها، وتتمثل أزمة الرأسمالية الغربية اليوم أولا في ازدياد حدة انعدام المساواة داخل الدول الرأسمالية. وقد بدأ هذا الشرخ بالظهور منذ الثمانينيات من القرن الماضي، مع انتخاب كل من مارغريت تاتشر ورونالد ريغان، وبداية النكوص عن سياسات الرفاء الاقتصادي التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

بدأ مع تاتشر وريغان عصر رأسمالي متوحش، يقوم على ضرب النقابات العمالية، وعلى تخفيض الضرائب على رأس المال، تحت ادعاء أن تخفيض الضرائب يزيد من العائدات، ويمنح فرصة لرأس المال لزيادة استثماراته وإقامة المشاريع التي تمتص الأيدي العاملة. لقد كانت المخيلة السياسية لليمين منذ نهاية السبعينيات هي أن أسباب التضخم تعود إلى النقابات القوية، وازدراء رأس المال، ودولة الرفاء المفرطة في الإنفاق على القضايا الاجتماعية. هكذا بدأ مسار التراجع عن الامتيازات التي حققتها الطبقات العاملة في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية. إن مستوى معيشة الفرد في الدول الرأسمالية الغربية، اليوم، بعيدا من بهرجة التقدم التقني، هو أقل من مستوى معيشته قبل أربعين عاما، والأرقام لا تكذب، إذ تقول الأرقام: إن التفاوت في الدخل بين أعلى 10 بالمئة وأقل 10 بالمئة دخلا في الولايات المتحدة ازداد بنسبة 40 بالمئة بين عامي 1980 و2018. أما التفاوت في الدخل بين المدير التنفيذي والعامل العادي فيبلغ مستويات مخيفة، إذ كان دخل المدير التنفيذي في الولايات المتحدة الأميركية قبل خمسين عاما أكثر بعشرين ضعفا مما يكسبه العامل الأميركي، في حين أنه يبلغ الآن أكثر من ثلاثمئة وخمسين ضعفا.

هذا التراجع المخيف يمثل نكوصا على أهم ميزة من ميزات الرأسمالية، وهي التبشير بالمستقبل. إن المجتمعات الرأسمالية تتطلع نحو المستقبل، ففكرة التقدم وتحقيق الوفرة والرفاء المادي هي أهم ما يدعو الإنسان في العالم الرأسمالي إلى التضحية بمكتسبات اليوم من أجل تحقيق أرباح في الغد. لكن هذا الإيمان بأفضلية المستقبل على الحاضر تراجع ولم يعد له وجود في الواقع العملي، فأخطر ما يواجه الرأسمالية هو انهيار الإيمان بالمستقبل وليس الاستغلال كما تذهب إلى ذلك الأدبيات الماركسية التقليدية. الخلاصة أن الرأسمالية تركت عصرها الذهبي وراءها، ولم يعد لديها فردوس قادم تعد به محكوميها.

كشف هذا الضعف الماثل في انعدام المساواة هشاشة القوة العسكرية في الخارج، فالتخبط أو التردد الذي يسم سياسات الديمقراطيات الغربية على الساحة الدولية ناتج أولا عن خلل اقتصادي داخل تلك الدول نفسها، فالقوة العسكرية لا تضمن وحدها للدولة حضورا فاعلا في مجال العلاقات الدولية، فالاستقرار في الداخل عنصر جوهري، وفي مقدمة ذلك إقناع المواطنين بضرورة التقشف من أجل الاستثمار في المستقبل، وهو أمر كان ممكنا حين كانت الرأسمالية في طور التقدم، ولكن هذا المسار غدا جزءا من الماضي. إن الدول الرأسمالية باتت عاجزة عن إقناع مواطنيها بضرورة التقشف، وهو ما يتضح في تردد عدد من الدول الأوروبية في تقنين استعمال الغاز بنسبة 15 بالمئة في فصل الشتاء القادم.

أدى النكوص الذي أصاب الرأسماليات الغربية، وتراجع الشعور بالتقدم الذي كان شعارها الأساسي، إلى بروز خطاب الهوية، وهو ما أسهم في صعود اليمين

وأخطر ما في انعدام المساواة الاقتصادية أن الفئات التي تعاني منها عادة هي الفئات الأقل دخلا، وهو ما يعني زيادة الانقسام الاجتماعي، والارتكاس إلى الحلقات الهوياتية الضيقة. لقد أدى النكوص الذي أصاب الرأسماليات الغربية، وتراجع الشعور بالتقدم الذي كان شعارها الأساسي، إلى بروز خطاب الهوية، وهو ما أسهم في صعود اليمين الذي رأينا مظاهره في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفي شعار "أميركا أولا" الذي رفعه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وفي تقدم الأحزاب اليمينة في الانتخابات البرلمانية في الدول الأوروبية. وهذه النزعة الانعزالية داخل الديمقراطيات الغربية أثرت على نحو كبير في حضور الدول على الساحة الدولية، الأمر الذي أفادت منه الدول الديكتاتورية الأخرى.

إن العطب الذي أصاب النظام الرأسمالي انعكس ضعفا في المستوى الاستراتيجي، فالقوة العسكرية وحدها لا يمكن أن تكون بديلا من النموذج، فقوة هذا الأخير تمنح تفوقا أخلاقيا لم تعد الرأسمالية قادرة على التبشير به. وهو أمر جردها من عامل القوة الأساسي في مواجهة خصم يبشر بأنه يريد ولادة عالم متعدد الأقطاب.