هل تفاعل الهولنديون مع أحداث أوكرانيا أكثر من سوريا؟

2022.03.05 | 05:34 دمشق

0b2a1c1e1c760575a1e1845a.jpg
+A
حجم الخط
-A

حين تحدث الحروب، تتفقد صحبة مقهى أو رفقة طريق أو علاقة لقاء عابر، تحاول الخروج من التحليلات التي تقرؤها أو تشاهدها، لتخفف عن نفسك بقراءات الناس غير المحترفين، لأنّ فيها الكثير من الطرافة، ورؤية جوانب من الحدث، قد لا تجدها عند المحللين المحترفين، أو صيادي الأزمات.

في المقهى الذي أتردّد عليه هاهنا في أمستردام أسبوعياً، التقيت بجليسيْ المقهى إيفان ذي الجذور السورينامية وكيرستن، إذ إننا نتجاذب أطراف الحديث كل أسبوع تقريباً، مع المشروبات، غالباً حول "ترند" الأخبار والسوشيال ميديا هولندياً وعالمياً، كنا قبل أسبوعين مشغولين بفضيحة برنامج (ذا فويس) والاستغلال الجنسي للمرشحات من قبل لجنة التحكيم، مما أدى لإيقاف البرنامج، وها نحن اليوم نجد من الحرب على أوكرانيا منطلقاً لجلستنا التي جاءت بعد أسفار خارجية.

بمركزية سورية سألتهما: ها هو الوجه الحقيقي لهولندا يظهر: صواريخ ستينغراد، وعقوبات سريعة على روسيا لا تحتاج موافقة البرلمان! وبثقة سورية مفرطة نهلتُها من المحللين السوريين المحترفين: لو لم تسكتوا عما حدث في سوريا لما وصلتم إلى ما وصلتم إليه الآن، جربَ بوتين أسلحته بنا، وها هو يقضم دولة على أبوابكم بالأسلحة ذاتها، تجعله في مواجهتكم مباشرة وعلى حدودكم!

وقبل أن أسمع إجابة كيرستن، أشدتُ بلون بشرتها الجديد "الأنتيلي"، وقد لوحتْ وجهها الشمس، بعد أن عادت من إجازتها في جزر الأنتيل، التي لا تزال تحتلها هولندا.

أدركتْ هي تلميحاتي، فردتْ علي: هل رأيت كل أصدقائك في السعودية بعد غياب خمسة عشر عاماً، وهل كان هناك ازدحام في "العمرة"، يبدو أن الشمس لم تؤثر عليك كثيراً، هل كنت سعيداً أكثر في الدوحة أم في دبي!

لم أردْ على أسئلتها، مازحتُها: إنْ لم يكن لديك التزامات عمل يمكن أن نترافق إلى لندن الأسبوع القادم، أو الأسبوع الذي يليه إلى إسطنبول!

قاطعنا إيفان محتجاً، وهو يقف: دعونا من مزاحكم وتعليقاتكم: هل يمكن أن تقول لي، ما وجه المقارنة بين ثورة شعب على مستبد كالحالة السورية، وصراعات تنظيمات متطرفة على الجغرافيا السورية؟ ودفاع شعب وحكومة ودولة ضد غزو خارجي من دولة مجاورة كما الحالة الأوكرانية؟

لماذا تركت هولندا باب التطوع مفتوحاً لمن يريد، وقالت: إنها لن تسحب جوازات من سيذهب إلى أوكرانيا، في حين أنها بقيت سنوات حتى استعادت مواطنيها، أو جزءاً منهم، ممن ذهبوا إلى سوريا؟

انسحب من الجلسة لارتباطه بموعد مسبق، ولم أكن متأكداً من أنه سمع قولي له: أهنئك على هذا الوضوح والثقة في شرحك للحالتين، وكأنك تتحدث عن نقاء الماء الهولندي، وليس موضوعنا سياسة وصراعاً ومصالح واستنزافاً وتصفية حسابات!

ولأننا نجلس في مقهى، ومن الضروري أن تبقى الكثير من الأسئلة معلقة، كي يجد الجالسون أجزاء من الإجابة في بيوتهم أو مع جلساء آخرين، انتقلتُ إلى سؤال آخر: هل يمكن أن تقولي لي يا كيرستن لماذا تركت هولندا باب التطوع مفتوحاً لمن يريد، وقالت: إنها لن تسحب جوازات من سيذهب إلى أوكرانيا، في حين أنها بقيت سنوات حتى استعادت مواطنيها، أو جزءاً منهم، ممن ذهبوا إلى سوريا؟

أنهت كيرستن شرب فنجان الكابتشينو، قائلة: هذا المقهى يقدم كابتشينو ليس له مثيل! وتابعتْ: هل تعتقد أنه يتساوى لدينا كهولنديين وأوروبيين من يقاتل ضد غزو خارجي يقوم به عدو تقليدي هو روسيا، كمن سافر إلى بلدك الأم لإلغاء مفهوم الدولة، ويريد أن يعيد التاريخ إلى ما قبل الدولة بل إلى الدولة الدينية، التي ترى في كل من يخالفها عدواً، وبالتالي سنكون نحن عدواً له كذلك، مجتمعاً وحضارة، وفكراً ومنتجاً؟

قلتُ لها: أنت تتحدثين عن داعش وكأن الثورة السورية صارت "داعش" أو صنعت "داعش"؟ ابتسمتُ، كي أخفف حدّتي السورية: ربما الكابتشينو الذي شربتِه فيه نسبة كافيين عالية، أظن أنه ليست مشكلة السوريين أنَّ ما بقي في ذاكرة العالم من ثورة ضد نظام مجرم، داعش فقط، نسي العالم آلاف المعتقلين والضحايا الموثقين، والبيوت المهدمة، والجرحى، وملايين اللاجئين، وبقي في ذهنه أن داعش نبتت واستنبتت وانتهت أو تكاد في سوريا!

أطل علينا صديقنا التركي فولكان، الذي كان وجهه يشع فرحاً، ودون مقدمات فتح موبايله ليسمعنا أغنية أوكرانية تتغزل بطائرة بيرقدار، واصفاً الطائرة بأنها ستغير وجه التاريخ! وتابع: أغلقنا البوسفور في وجه السفن، نحن بلد يبحث عن السلام! ردت عليه كيرستن: أنتم بلدٌ يبحث عن مصلحته، وهذا حقكم في السياسة، لكن علينا ألا نعطي الأمور بعداً أخلاقياً، نعم أنتم تغلقون البوسفور بعد أن عبرت كل سفن الأسطول والغواصات نحو ساحة المعركة!

انشغل فولكان بحديث مع النادل حول الشاي وأنه يريده ثقيلاً، فيما عدتُ إلى كيرستن: تعنين أن الوضوح هو ما ينقص ثورتنا ووحدة الهدف؟

هزت رأسها: شيءٌ من هذا!

وقبل أن يقاطعنا فولكان قلتُ: ليست المشكلة في السوريين، فحسب، المشكلة الأكبر أن الساحة السورية ساحة معقدة جداً، وفيها تداخلات كبيرة من أطراف متنافرة، ثمة من وظَّفها ليربي شعبه، وثمة من أراد تشويه مرموزية سوريا، وهناك من لديه أجندات دينية، وبحث عن مياه دافئة، وهناك من لم يكن هدفه سوى أن يستفيد مادياً من الحرب.

في الساحة الأوكرانية الأمر مختلف جداً، هناك مصالح أوروبية وأميركية متوحدة لا خلاف عليها! لكن ستكشف الأيام أكثر وأكثر عن تشابكات الساحة الأوكرانية ببعدها التاريخي والواقعي والعلاقة مع الروس والعصبية الأوكرانية، إنْ بقي الصراع في أوكرانيا عقداً من الزمن كحالة ثورتنا، حيث ستظهر مئة قضية وقضية!

قالتْ لي: لكن مهما حدث سيبقى الوضوح سمة رئيسية لها، هي صراع ضد عدو خارجي هو روسيا، التي يهدد رئيسُها العالم بالسلاح النووي، وتدفع أوكرانيا ثمناً لأنها رأس حربة أوروبية في وجه روسيا!

وكي لا تعتقد كيرستن أننا في برنامج سياسي، أريد أن آخذ فيه دور المذيع، فأتحدَّث أكثر من الضيوف، قلتُ لها: عادة ما تتم المقارنة بين شيئيْن بينهما عناصر متشابهة، كالقمر والشمس، وماء البحر وماء النهر مثلاً، صبية جميلة وغزال يتهادى، غياب متعمد وحضور لا ينقطع، نحن السوريين، مثل كل الشعوب المكلومة، حدث لدينا تضخم في الشعور بمركزية قضيتنا، قد لا تشاطرنا الشعوب الأخرى هذا الشعور، خاصة أننا مثل علاقة حب، يطغى فيها الغياب أكثر من الحضور، تُركنا معلقين، دون حل، ننتظر "غودو" في غيابه وحلوله!

ولأن الجو مشمس، وهذه فرصة ذهبية في هولندا، اتفقتُ مع كيرستن أن نمشي معاً حول البحيرة المجاورة لنأخذ قسطاً من فيتامين "دال"، تركنا صديقنا فولكان منشغلاً باستمتاعه بشرب الشاي، وهو يعيد الاستماع إلى أغنية بيرقدار.

وبدا أن كيرستن غدت أكثر تركيزاً، فقالت: الجانب الإنساني لا يكفي لتكون قضيتك مركزية في العالم، الجغرافيا لا تكفي كذلك، التعاطف خلطة متعددة، لا نستطيع أن ننسى ما صنعه الأوروبيون إبان اللحظة المفصلية في الثورة السورية، لكل حدث، ولكل علاقة إنسانية لحظة مفصلية، إن تم تجاوز تلك اللحظة لا يمكن العودة إليها، القضية السورية صارت ورقة تفاوض، زخمها انتهى!

جزءٌ كبير من مشكلتنا في سوريا أن خصوم الثورة وأعداءها كانوا أكثر دهاء وذكاء، شغلونا في التفاصيل، ألقوا "طعومات" كثيرة اصطادت الكثيرين منا، أو لنقل كان اصطيادنا سهلاً، ربما أسهل مما توقعوا!

وكي لا يغدو الحديث حديثاً تحليلياً فحسب، وكنوع من عدم الاعتراف القاسي بمآل ثورتنا وحلم عودتنا إلى بلدنا، قلتُ لها: تقصدين مثل علاقة الحب، يوجد نقطة إنْ تجاوزتها العلاقة لا يمكن العودة إليها، مهما حاول أحد الحبيبين بثّ الروح فيها!

ردت كيرستن: نعم، وإن كان هذا التوصيف يصلح لعلاقات الحب الشرقية!

وكي أعزي نفسي، وأتمّ نهاري، دون كوابيس قلتُ لها: جزءٌ كبير من مشكلتنا في سوريا أن خصوم الثورة وأعداءها كانوا أكثر دهاء وذكاء، شغلونا في التفاصيل، ألقوا "طعومات" كثيرة اصطادت الكثيرين منا، أو لنقل كان اصطيادنا سهلاً، ربما أسهل مما توقعوا!

وفيما كانت الغيوم تحجب الشمس أحياناً ونحن نمشي حول البحيرة، وصلتنا رسالة عبر الموبايل تحدد أقرب مركز لتقديم المساعدات لجيراننا الأوكرانيين، حيث بدأ كلٌّ منا يفكر بما يستطيع تقديمه للضحايا المدنيين، وقد سبق أن قدم المجتمع الهولندي والدولة الهولندية للسوريين وسواهم أول لجوئهم الكثير من الدعم والمساعدة في تفاصيل الحياة اليومية والمعاشية، إضافة إلى الجنسية الهولندية لجميع من لجأ إلى هذه البلاد، بعد الإقامة ثلاث أو خمس سنوات، دون النظر إلى اللون أو الدين أو المعتقد.