هزة ارتدادية في القصر الجمهوري

2023.02.22 | 06:12 دمشق

هزة ارتدادية في القصر الجمهوري
+A
حجم الخط
-A

طوال سنوات احتلال بشار الأسد لكرسي الرئاسة في سوريا، والتي تقترب من ربع قرن، لم يحدث أبدا أن شاهدت بشار الأسد يقرأ من ورقة، دون أن يخرج عنها ليدقق في المصطلحات أو ليرتجل شيئا من فيض "عبقريته"، ولم يحدث أيضاً أن تصرف بشار الأسد كرجل دولة، كي تُقرأ أحاديثه أو تصريحاته بالاهتمام أو التمحيص الذي تُقرأ به عادة أحاديث وتصريحات رجال الدولة في مناطق العالم الأخرى.

هذا ليس تجنياً أو تقليلاً متعسفاً من أهمية بشار الأسد وأهمية موقعه، لكنه قراءة لمسيرة طويلة من السياسة الصبيانية، المرتجلة، والمتخمة بالوهم والعظمة الزائفة، لما يقرب من ربع قرن من وجوده في الموقع الأول في سوريا، ولابتعاد الخطاب الرسمي السوري عن المعايير السياسية، وأحياناً البرتوكولية المتعارف عليها، والتي يمكن رؤيتها منذ أول إطلالة له في القمة العربية التي عقدت في مصر بعد أشهر قليلة من وراثته حكم سوريا، والتي راح يشرح للرؤساء المشاركين فيها مصطلحات الخيار (كلمة خيار تعني بأن هناك خيارات مختلفة) (لنحدد الواقعية، ونعرف الواقعية أو لنحدد ماذا تعني الواقعية؟) (تعريف القوة) (تعريف الردع) (تعريف السلام) ...الخ.

منذ خطابه الشهير في القمة المذكورة، وحتى زيارته لحلب بعد الزلزال الأخير لم يتصرف بشار الأسد لحظة واحدة كرجل دولة عبر كل خطاباته وأحاديثه، وكان دائماً يظهر كرجل منفصل عن الواقع، يكذب بوقاحة قل نظيرها، يتكلم وكأن العالم هو فقط ما يوجد في مخيلته، لا يتوانى عن اتهام الآخرين وتخوينهم والاستعلاء عليهم، يزاود بمقاومته المزعومة، ويقدم نفسه كزعيم متفرد يقاوم مؤامرات العالم ويرسم بعبقريته مصير المنطقة والعالم، والغريب أنه لم يغير شيئاً من خطابه، حتى بعد دمار سوريا واحتلالها وتقسيمها وتشرّد نصف مواطنيها، ورغبة النسبة الساحقة من النصف الآخر بالهجرة منها، وانهيار اقتصادها و..و.. بقي خطابه المفصوم كما هو، فما الذي حدث كي يظهر بعد أيام من ظهوره الصفيق الضاحك فوق الدمار في حلب، وهو يقرأ خطاباً بحالة أخرى، وبلا تدقيق مصطلحات، وبلا إضافاته المرتجلة التي تعكس بدقة مدى توهمه بعظمته وفرادته.

أهم ما يجب قراءته في خطاب بشار الأسد الأخير هو ليس ما قاله فيه، بل كيف ظهر، وكيف قرأ، ومدى التزامه بما هو مكتوب، والتزامه بتعابير وجه ثابتة

إذاً بعكس ما يذهب إليه كل من يحاولون القراءة في خطاب أو تصريح لمسؤول ما، في موقع ما، عندما يحاولون أن يقرؤوا ما بين السطور، والتباسات المعاني، وغير ذلك، لتفسير معانيه واستكشاف دلالاته، فإن أهم ما يجب قراءته في خطاب بشار الأسد الأخير هو ليس ما قاله فيه، بل كيف ظهر، وكيف قرأ، ومدى التزامه بما هو مكتوب، والتزامه بتعابير وجه ثابتة، وكأنه أمام مخرج صارم قيّد حركته تماماً، فلم نسمع قهقهته التي تنطلق بغض النظر عن علاقتها بالموضوع الذي يتحدث فيه، أو بالظرف الذي قيلت فيه، ولم نسمع حرفاً واحداً خارج ما هو مكتوب، باختصار لم يكن بشار الأسد هو بشار الأسد الذي نعرفه.

ترافق الظهور الرصين غير المألوف لبشار الأسد مع مؤشرات عدة لا بدّ من رؤيتها، مؤشرات منها ما هو سابق للزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، ومنها ما جاء بعده واستعمل كواجهة، ففيما يبدو مؤشراً على تغيير في موقف السعودية من النظام السوري، قال وزير خارجيتها "الأمير فيصل بن فرحان آل سعود" الذي يشارك في مؤتمر "ميونيخ" للأمن العالمي إن إجماعاً بدأ في العالم العربي على أنه لا جدوى من عزل سوريا، وأن الحوار مع دمشق مطلوب "في وقت ما"، يضاف إلى الموقف السعودي عودة الأردن للحديث عن التقارب مع دمشق، ورفع تونس لمستوى التمثيل الديبلوماسي، وغيرها من المواقف.

لم تكن جرائم النظام السوري ووحشيته حيال الشعب السوري وتدميره الشامل لسوريا، هي الركيزة التي استند إليها الموقف الرسمي العربي منه، والحديث عن هذه الجرائم لم يكن إلا الذريعة في معظم هذه المواقف، ورغم تعدد الأسباب الأخرى إلا أن أهمها يبقى ارتباط النظام السوري بإيران وعلاقته العميقة بها، وهذا ما يتم نقله للنظام السوري عبر كل الوسطاء، وهذا ما شكّل حجر الأساس في محاولة التقارب التركي السوري الذي تعبت روسيا من أجله، والذي ردت عليه إيران برسائل مستترة، لكنها شديدة الوضوح.

السؤال المهم والذي يطرح بقوة هنا، هل يستطيع بشار الأسد تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا؟ حتى إن تعاون مع اسرائيل، وأمدها بكل المعلومات اللازمة حول الوجود الإيراني في سوريا، وحتى إن دعمه الروس سرا في هذا، فهم لا يجرؤون على دعمه علناً لأنهم بحاجة إلى إيران كثيراً في حربهم التي يخوضونها ضد أطراف كثيرة على الساحة الأوكرانية، لكنهم بحاجة تركيا أكثر، وهل يمكنه تحييد الأطراف السورية الفاعلة بقوة في الشأن السوري، والمرتبطة بإيران كالفرقة الرابعة والميليشيات المنتشرة في مناطق واسعة من سوريا؟

ربما يكمن الخروج الوحيد لبشار الأسد من المأزق الذي يعيشه بسبب علاقته مع إيران، في سقوط النظام الإيراني، وهذا يبدو غير واقعي اليوم، رغم كل المقدمات التي تعزّز من هذا الاحتمال فهناك الوضع الاقتصادي المتردي، وموجة الغضب التي تجتاح الشارع الإيراني، وتورّط النظام الإيراني بمساعدة روسيا عسكرياً في حربها على أوكرانيا، لكن كل هذا لا يقلل عند أطراف دولية عدة من أهمية الدور الوظيفي للنظام الإيراني في المنطقة، ولا يدفع حتى اللحظة للتخلي عنه، لكن من الضروري إعادته إلى حجمه ودوره فقط.

إيران لها حساباتها ولها كلمتها، والأهم من كل هذا أن لها طرقها في "الإقناع"، وبشار الأسد يعرف جيداً هذه الطرق، فقد كان شريكاً حقيقياً في معظم حوارات الدم التي قامت بها إيران

ربما يذهب البعض إلى افتراض قبول إيران بتقليص شكلي لنفوذها ووجودها في سوريا، على أمل مساعدة حليفها كي يوافق النظام الرسمي العربي على إعادته إلى "سيرك" الجامعة العربية، لكن كل المؤشرات وكل ما تفعله إيران يشير إلى عكس ذلك، وبالتالي فإن هذا الخيار يبدو غير قابل للتنفيذ، فكيف سيستطيع بشار الأسد حل هذه المعضلة؟!

"الكورس" الذي بدأه بشار الأسد بإطلالته الأخيرة والذي يتدرب فيه، على أن يكون مؤدباً، ورجل دولة، وأنه سيكون عاقلاً، ولن يصف السوريين المعارضين له بأنهم جراثيم، وأنه سيقبل بعودة اللاجئين متخلياً عن نظريته في المجتمع المتجانس و..و... لن يفيده كثيراً، فإيران لها حساباتها ولها كلمتها، والأهم من كل هذا أن لها طرقها في "الإقناع"، وبشار الأسد يعرف جيداً هذه الطرق، فقد كان شريكاً حقيقياً في معظم حوارات الدم التي قامت بها إيران.