نقابة الفنانين السوريين وسوق الفن

2020.03.03 | 23:02 دمشق

92dd81f6-25022012_m2.jpg
+A
حجم الخط
-A

تداولت مواقع التواصل في الأيام الماضية، فيديو يُظهر مجموعة ممن يُسَمَّون بالفنانين السوريين، وهم مجتمعون في قاعة كبيرة من أجل انتخاب نقيب للنقابة، بديلاً عن النقيب الحالي الممثل المعروف "زهير رمضان". الفيديو أثار لغطاً موسعاً، وتعليقات كثيرة، حول شخصيات "فنية" دفنتها ذاكرة السوريين منذ زمن طويل، وغابت في طيِّ النسيان لدى غالبية الجمهور، منذ سنين خلت، فكان التذكير بهم، بعد شقة نسيانهم، وطي تذكارهم منذ بدايات الثورة، له فعل الصدمة المريرة، والضحك الذي يشبه البكاء من انتخاباتهم المزعومة، أو آخر منتجاتهم الفنية بالأحرى.

ليس خافياً على أحد بأن هنالك سوقاً كبرى في سوريا، شأنها شأن سائر البلاد العربية، يصحُّ أن ندعوها سوق الفن والفنانين

ليس خافياً على أحد بأن هنالك سوقاً كبرى في سوريا، شأنها شأن سائر البلاد العربية، يصحُّ أن ندعوها سوق الفن والفنانين. هي سوق بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فيها العرض والطلب، وفيها التجارة وترويج البضاعة وكفاءة الدعاية لها، وتحالف الرأسمال أو انفكاك تحالفه، والربح والخسارة، وفترة الصلاحية وانتهائها. والملفت في الأمر، أن هذه السوق باتت جزءاً صميمياً وحقيقياً من المزاج الشعبي العام، ومن الشأن السياسي العام. يتدخل في السياسة، وله رأي مؤثر في الربيع العربي والثورات. وهو يشارك في كل النقاشات والمجادلات العامة. فالنجومية، نجومية الفنان بالوجه الأخص، كانت وماتزال تشكل قوة ثقيلة في تأطير ذهنية الحواضن المجتمعية العربية، والتأثير فيها ـ سلباً أو إيجاباً ـ خاصة حين يرفد الفنان/ة رأيه وموقفه بروافد الشأن العام، والشأن السياسي خاصة. بل، أكثر من ذلك، لعل كثيراً من الجماهير العربية تعرف تفاصيل عن حياة الفنانين، وأسلوب معيشتهم وآرائهم في الشأن العام، أكثر بكثير من معرفتهم بأهل السياسة وأصحاب الشأن المؤثرين في القرار المصيري لشعوبهم.     

من حق الفنان بالطبع، مثلما هو من حق أي إنسان أن يُدلي برأيه في الشأن العام وفي أي شأن آخر. لو كان الأمر أمر رأي شخصي وقناعة معينة في بعض تلك الشؤون بعمومها وخصوصها. لكن الأمر لا يجري دائماً هذا المجرى، ولا ينحو هذا المنحى. فـ"الفنانُ" جزءٌ من مزاج السوق الشعبية العامة، وهو يُمثّل نمطية شعبية وقدوة جماهيرية لأسباب كثيرة لا مجال لاستعراضها. وذلك بما يختزن في أنفس الناس، من تلك الرمزيات التي تزخر بها عواطف محبيه والمعجبين به، ما يراكمُ رأياً جمعياً مؤثراً، سواءٌ بالمعنى السلبي أو الإيجابي. ولا حاجة بنا إلى القول، بأن الجمهور يظل مشدوداً شدّاً غرائبياً غير مفهوم كثيراً، للتفاصيل الشخصية، الخاصة والعامة، التي تتصل بهذا الممثل/ة، أو ذاك/ تلك/ المطرب/ة، أو مقدم برامج ومسابقات بعينه. أو كوميدي أو صاحب مقالب وحزازير رمضانية، أو مُنَجِّم شهير، أو غير ذلك.

أخبار زواج الفنانين والفنانات وطلاقهم، وسِيَرِهم الذاتية، وتَدَيّنِ بعضِ الممثلين أو إلحادهم، واعتزال بعض الممثلات أو لبسها للحجاب، أو بعض سيرٍ فضائحية لشخصيات تلعب في ملعب النجومية، وكل أو بعض تفاصيل حياتهم الخاصة وسلوكياتهم، فضلاً عن آرائهم العامة في الحياة والسياسة والمجتمع، وغير ذلك من تفاصيل، قد تحظى باهتمام ومتابعة الجمهور العام أحياناً، أكثر من حصائد ظهوراتهم الفنية، وأعمالهم الدرامية أو الغنائية. الأمر الذي قد يفطن له أهل التجارة والتربح في هذه السوق، بالقدر نفسه الذي يتداعى له أهل السياسة وأسواقها، لتجيير هذا المزاج العام في محاولة للتأثير على الجمهور بوسائط غير مباشرة، ربما تكون ذات أثر نفسي أو منهج تطبيعي وترويضي تربوي.

فتصريح لدريد لحام، وخبر عن المطربة أحلام، ومصادفة موقف لياسر العظمة أو أيمن رضا أو سولاف فواخرجي، ربما لا يقلُّ متابعة أو انشدادا عاطفيا واهتماما وتأثرا أو قبولا من الجمهور، عن معظم القضايا المصيرية والحاسمة التي تتصاعد في الساحات العربية، شرقاً وغرباً. والفضائح الجنسية، أو الأخبار المالية والاجتماعية والعائلية، لهذا النجم أو ذاك قد تتعدى حدود كل منطق معقول أو مفهوم. لما قد تستحوذ عليه من خيالات وعواطف متأثرة، صادمة أو متعاطفة أو شاجبة، والتي قد تستدعي مشاركات وانفعالات، من قبل الآلاف من ذلك الجمهور العريض.

وتكمن أخطر جوانب المشكلة، حين ينحدر أمثال هؤلاء، لا إلى مستوى "شبيحة"، يهللون لنظام قاتل، ويسبحون بحمده ويباركون أفعاله، ويُزَيِّنون قبحه فحسب، بل حين يظل يملك هؤلاء، أو بعضهم، قوة الجذب والتأثير الشعبوي المنفعل في عموم الجمهور، حتى في تحولاتهم، بسلوكهم الانتهازي، وفرديتهم المستقبحة، لدى الغالبية العظمى من شعبهم وجمهورهم، وانحدارهم إلى قريب من سوية "الحميماتي"، النمطية المعروفة، والمقطوع بما يشبه البديهية بوضعيتها غير السوية وغير المعقولة.  

ربما كان أميز ما يميز الحميماتي في مجتمعنا هو المبالغة في تقديره الشخصي لطيوره، ولقيمتها الحقيقية. وذلك ما بين نظرته الخاصة لها وأنظار الناس. فالناس لا يرون فيها أكثر من طيور جميلة تزين المنازل والطبيعة، وأحياناً تصلحُ لحومُهُا على ضآلة أحجامها لتكون وجبة متواضعة؛ بالكاد قد تشبع إنساناً. ومن المحال أن تقنع غير العاشق لهذه الطيور، أن "زوج الحمام" هذا، تعدل قيمته مئآت آلاف الليرات، بسبب سلالته النادرة أو ميزاته الأعجوبة، وخصائصه الغرائبية،  والمخفية عادةً على غير أهل الاختصاص، وجَهَلَةِ المصلحة من أمثالنا.

تسليع الدين، (أي تحوله إلى سلعة يومية خاضعة لمتطلبات العرض والطلب)، أسوة بأية سوق، يقابله في يومنا هذا تسليع الفن، وتحويله إلى مضاربة ومنافسة في كسب رأي الجمهور

الحميماتي يتداخل مع عالم الحمام ورفّ الطيور، حتى يتماهى به. فينفصل عن المجتمع والناس، ليعيش متعة لهوه وانصرافه بكلية عقله وقلبه إلى تلك المخلوقات المحلقة المرفرفة، وشيئاً فشيئاً يصبح متعبداً في محرابها، يهينُ أعماله وأشغاله ووقته كله في الليل والنهار من أجلها، حتى تهونَ أخيراً في بصيرته كل قيمة وكل معنى، فالكذب والتدليس والمهاترات والمشاجرات، هي فضائل عليا طالما أنها تُبذل في سبيل عبادة "كشة الطيور"، والتعطل والتبطل والانفصال عن مسؤولياته وعن المجتمع، وهدر كل عاداته ومروءاته، من أجل "الكشة"، هو ضرب من الترقي في سبيل عبادة الطيور.

بالقطع، ليس بوسعنا تخطي هذه الحقائق أو تجاوزها، دون أن نتفحص ارتداداتها اليومية وتشابكها مع سائر مشكلات الدول العربية الجديدة والمزمنة منها. ففي عشرينات السنوات المنصرمة، افتُتِحت سوق الفضائيات وبضائعها المتنوعة، بما تعجُّ به على مدار النهارات والليالي، بكل ما يمكن أن يؤثر ويستأثر بالاهتمام العام. فكان للدين والجدال الديني والمواعظ قصب السبق وحصة الأسد في اجتذاب الجمهور. ثم تطور الأمر إلى ما يشبه أن يكون منافسات، في حلبات سباق ذي منزع طائفي، بين القنوات السنية والقنوات الشيعية، الأمر الذي عكس مزاجاً عاماً على الأحداث اللاحقة بعد انفجار الثورات العربية، وسريان الربيع العربي في غربه وشرقه.

تسليع الدين، (أي تحوله إلى سلعة يومية خاضعة لمتطلبات العرض والطلب)، أسوة بأية سوق، يقابله في يومنا هذا تسليع الفن، وتحويله إلى مضاربة ومنافسة في كسب رأي الجمهور الواسع، وقولبة مزاجه والقرع المستمر بما يوسِّع من قاعدة الرأي العام المتلقي. وتبرز خطورة الأمر أكثر، حين نكون على بينة بأن من يملكون سوق السياسة والسلطة، ووسائل الإعلام والتأثير العام، هم من يملكون المال، وهم أصحاب الأولوية الترجيحية في شراء سوق الفن والفنانين، وإعادة برمجته في خطوة متاحة من بين عديد الخطوات الأخرى، في السيطرة وامتلاك التأثير في الناس في مجمل الخطوات الاستباقية الفاعلة في هذا الشأن.    

 

كلمات مفتاحية