صورة سوريا وصورة " دوريان غراي"

2020.10.20 | 00:02 دمشق

1456337121349636300.jpg
+A
حجم الخط
-A

صورة المشهد السياسي السوري تتميز بكونها، في الوصف والمضمون، صورة متبدلة. ليس حالُ ما كانت عليه الأوضاع فجر الثورة في مارس عام 2011، تشبه في ملامحها أو أقل أساسياتها المشهدية، ما كانت عليه الحال في بدايات عام 2015. ذلك العام الذي أعلن فيه التحالف الدولي انتصاره رسمياً على تنظيم داعش، ودخوله مدينة عين العرب (كوباني)، ثم فرضه شروط المنتصر، لا على التنظيم الإرهابي العابر للحدود فحسب، وإنما على جميع أطراف الصراع؛ من النظام والثوار.

تغيرت طبيعة موازين القوى الجديدة المتحكمة بالخريطة السياسية لأشمل مساحات سوريا، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. بحيث لم يعد مدلول مصطلحات (معارضة) و(نظام) تفيد نفس معانيها التي كانت عليه قبل هذا التدخل الخارجي الدولي، والذي سحب الملف السوري، حتى في تفصيلاته الشكلية، من أيدي السوريين. وبحيث بات الواقع ينطق بوضوح لا لبس فيه، أن طرفي المعادلة المكونة من نظام وثوار، أصبح ابتداءً من إعلان الانتصار العسكري، للقوى المتحالفة ضد تنظيم إرهابي (لم يكن يوماً أكثر من صنيعة لها)، أصبح مسرح تصارع أطراف دولية وإقليمية، استغنت عن السوريين كطرف في معادلة الصراع. فلم يعد لما كان يسمى نظاماً، ولما كان يسمى معارضة، حاجة شكلية في إدارة الصراع، إلا كحشوة سياسية أو قتالية رخيصة الكلفة، وزائدة عن الحاجة في الغالب. أو خزان احتياطي بشري مدفوع الأجرة في أي مظهر قتالي أو سياسي أو حتى مؤسساتي.

ما بين عامي 2015، وحتى العام الحالي 2020 مضى الملف السوري يتقلب فصولاً في تبدلاته على المستويين: الشكلي والجوهري، فقد تداخلت عناصر التغيير فيه بين المظهر والجوهر، حتى باتت تغيراته شهرية أو فصلية. أو ـ في أدنى احتمالاتها ـ سنوية. بحيث أن ما كان طافياً على مُسطَّح الحدث، قد اختفى ولو جزئياً، وما كان غير متوقع بات حقيقة بديهية، وما كان مستبعداً في الاحتمالات والذهنيات، صار واقعاً غير مستنكر، ولا يمكن استبعاده من معادلة قراءة الواقع كما هو.

هذا التحول في الشكل والمضمون، يُذَكّر بالمشهد المتبدل إلى حدود حافة التغير الجذري، برائعة الكاتب الإنكليزي، "أوسكار وايلد". في روايته الشهيرة (صورة دوريان غراي). وهي واحدة من روائع الروايات العالمية في الأدب الحديث.

في الملخص المختصر، دوريان غراي شاب جميل جداً، فائق الجمال، هو موديل نموذجي للرسامين الباحثين عن موديل متميز، يصلح لإنجاز لوحاتهم الفنية. فقد حبته الطبيعة ميزة على أقرانه بتلك الصورة الجمالية الخارقة.

يتعرف دوريان غراي إلى الرسام هنري، وبعد محادثة وصداقة يتفق دوريان غراي على أن يقف أمام الرسام ليرسمه، منجزاً برسمه أبدع صورة جمالية. فيتوافقان على مواعيد الجلسات لمتابعة رسم اللوحة. لكن دوريان غراي بطبيعته اللامبالية والمتفلتة، المهملة والعشوائية، يتغيب عن تلك المواعيد التي وعد بها الرسام. ويهمل، بسبب غروره واعتداده الشديد بنفسه، حضورها إهمالاً شديداً، فلا يلتزم بها إلا على فترات متباعدة.

في البداية يتخلف عن الموعد أياماً، ثم تغدو الأيام أسابيعَ وأشهراً وأعواماً، فلا تكتمل (صورة دوريان غراي). تمر الأيام والسنون، ودوريان غراي لا يعطي من وقته فرصة ليقف أمام الرسام إلا في ما ندر. ويبدأ الزمن يفعل مفاعيله بالوجه المشرق النَضِر للشاب الجميل: الشيب يغزو رأس دوريان غراي شيئاً فشيئاً، والوجه يتغضن يوماً بعد يوم، والنضارة تذوب ليحل محلها الشحوب والشَمَط ومظاهر الكهولة وإرهاصات الشيخوخة.

أما الرسام هنري، فكلما جلس أمامه دوريان غراي ليرسمه، لا يرسم إلا الشخص الذي أمامه كما يراه في الواقع فعلاً، لا كما يتوهم أو يتخيل صورة ما كان عليه في الماضي. لقد استحال دوريان غراي إلى روحٍ هدمتها الموبقات الجِسام، وجسدٍ باتت تتآكله الآثام. ودوريان غراي لا يتخيل مجرد تخيل أنه آل إلى كل هذا التغير، وأنه انتهى إلى كهولة وفقدان نضارة وميعة صبا، وتستمر الأيام.. وتكتمل الصورة أخيراً، صورة دوريان غراي.

ينظر دوريان غراي إلى اللوحة التي أمامه، فتأخذه الدهشة ويفاجئه المنظر، فيتساءل مستنكراً: أهذا هو حقاً أنا؟ أهذه هي صورة دوريان غراي؟ أين إذن دوريان غراي الذي كان في الماضي؟

يرفض الصورة بغضب، ويتهم الرسام بتشويه صورته والاحتيال عليه برسم

صورة دوريان غراي هي صورة سوريا، على الوجه الحق. ودون نقص أو زيادة

صورة له لا تشبهه، وليس وارداً أن يكون حاله الحقيقية كما هي عليها في هذه الصورة. ويدور رأسه من صدمة ما رأى، ثم ينهار من الكمد.

أخيراً يهجم على الصورة. يرفعها عالياً ويحطمها شر تحطيم. ويرفض الحقيقة. يرفض أنَّ ما كشفته الصورة من تفاصيل هي حقاً صورته هو. صورة دوريان غراي الذي كان في الماضي جميلاً وسيماً.

صورة دوريان غراي هي صورة سوريا، على الوجه الحق. ودون نقص أو زيادة. صورة دوريان غراي كانت تحتاج إلى إنجاز استحقاقاتها في مواعيدها المحددة. وما زال كثير منا يختلط عليه منظور الرؤيا، بين صورة سوريا عام 2011، وصولاً إلى عام 2015. وانتهاءً بسوريا عام 2020. وما فصل بينهما من مراحل فرعية مؤسِّسة أو مشتقة من واقع الأحداث. فهناك مسافة من الزمن حفرت فيها الأحداث حفراً فظيعاً؛ فقد تغيرت القوى البشرية التي صنعت الثورة في سوريا، وتوالدت أجيال جديدة، وأُفسِح المجال لقوى متدخلة أخرى. تبدل فاعلون أساسيون وثانويون كُثر. والتبدل لم يكن بطبيعة الحال، لصالح قضية التغيير التي كان شعارها الأول والأساس هو شعار "الحرية".

طبيعة الدول والحضارة عموماً، تعلمنا بأن ما كان مجسداً ملموساً قبل سنوات، سوف يصبح بعد سنوات صورياً وذهنياً ـ محمولاً عبر قوالب التصور التخيلي لا غير ـ وحمولة افتراض سياسي قد لا يصدّق عليها الواقع، وما كان ممكناً قبل سنة قد لا يفيد فعله اليوم، وربما يصح أن يصنَّف تحت مسمى عدم الجدوى واللا طائل منه.

في واقع السياسة المتبدل باستمرار، رُبَّ صديقٍ وشريك يصبح خارج كل حساب. إن لم يعد عدواً مبيناً، واضحَ العداوة. وولادة الفعل في غير زمانه ومكانه الطبيعي، مثل موته في غير زمانه ومكانه الطبيعي. والثابتان الوحيدان مهما تبدلت قوى الواقع الصانعة للمأساة السورية أو المساهمة فيها، هما آلام السوريين وآمالهم. فالمسرح ثابت، بينما كل موجودات ديكوره في تغيير مستمر. وصورة واقعنا السوري مثل صورة دوريان غراي، لا ما نتخيل ونتوهم ونقارب ونفترض ونظن، بل هي آخر طبعة جعلتها الحياة العامة الدولية والإقليمية والمحلية، طبعتها النهائية.. على فترة من التغيير الذي تقف فرضياتنا العقلية عنده.. لكنه لا يتوقف أبداً.