نظام يحترف المجازر

2022.05.06 | 07:08 دمشق

thumbs_b_c_b1cd694b8d0f82e1de640251cb442e88.jpg
+A
حجم الخط
-A

كما هي الحال المأساة منذ أربعين سنة أو تزيد، مجزرة إثر مجزرة يرتكبها نظام القتل المرخص دولياً في سوريا، وهو يعلم علم اليقين أنَّ تداعيات الأمر لن تتعدى بضع بياناتٍ وتنديداتٍ واستنكاراتٍ هنا وهناك، ثم تحال تلك الدماء البريئة إلى سجلات النسيان، أو تحفظ مع آلاف الملفات التي يكفي عشرها لإدانة أي نظام بجرائم ضد الإنسانية.

ليس ثمة جديد في هذه الحكاية، وليس هناك ما يدهش، فمع العلم التام أنَّ ما تكشفت عنه الحقائق الدموية المعلنة، لا يشكل أكثر من قمة جبل الجليد المغمور. ربما لا ينبئ عن حجم الكارثة الحقيقية، التي تستمر في طحن آلاف المدنيين السوريين سوى أعداد المختفين قسرياً، الذين وثقت غيابهم منظمات دولية، والتي تعجز إجرائيا عن توثيق العدد الحقيقي للضحايا، لصرامة البروتوكولات التي يلتزمون بها، ولو تمكنت جهة حقوقية من إحصاء أسماء المختفين قسرياً في المدن السورية، عبر الاستماع إلى أهالي المفقودين، الذين لا يجرؤون على الكلام، لتضاعف الرقم أكثر من مرة، لكنه الرعب المخيم على كامل المساحة السورية، والذي يخنق الصدور ويكم الأفواه.

حقيقة ما جرى ويجري يومياً في سوريا لا يخفى على أحد، لكننا نعلم أن أحداً لا يريد حلاً في سوريا، ولا وقفاً لمذابحها، ولا إنصافاً لقتلاها الأبرياء. وها هي آلاف الصور والوثائق في ملف قيصر، تنتظر فعلاً حاسماً، ومجزرة حي التضامن التي كشفت عنها صحيفة الغارديان بالأمس، واحدة من مئات بل من آلاف المجازر المسكوت عنها، والتي يدان بالتستر عليها المجتمع الدولي ومنظماته، بنفس القدر الذي يدان به نظام القتل في دمشق، وراعيه المباشر وحاميه "النظام الروسي".

مجزرة حي التضامن التي ارتكبت في نقطة تبعد 4 كم عن الجامع الأموي و3كم عن محطة الحجاز في قلب العاصمة دمشق، تحاكي في بشاعتها واستهتار فاعليها مئات المجازر المتسلسلة التي تمتد على مدى أربعين عاماً (مجزرة حي المشارقة وعشرات المجازر في حلب 1980، مجزرة حماة وعشرات المجازر في أحيائها 1982، مجزرة تدمر 1980) وغيرها كثير ممن حفظتها ذاكرة الألم السوري، وتجاهلتها الأنظمة الني تمضي اليوم للتطبيع مع نظام يحترف القتل، ليس ثمة عار أكبر من هذا العار، أي عالم متوحش نعيش فيه؟ عالمٌ لا يحاسب به المجرمون القتلة، عالم تفقد فيه أي دعوة للسلم أو العدالة الانتقالية، أو المصالحة الوطنية قيمتها الأخلاقية بل ومسوغاتها الإنسانية.

حقيقة ما جرى ويجري يومياً في سوريا لا يخفى على أحد، لكننا نعلم أن أحداً لا يريد حلاً في سوريا، ولا وقفاً لمذابحها، ولا إنصافاً لقتلاها الأبرياء

لو مررنا بمجازر تدمر المتوالية أسبوعياً، من بدايات عام 1980 لوجدنا ذات الروح القاتلة، الملتاثة باستمتاع الجلاد بالرقص فوق جثث الضحايا، وإطلاق صرخات النصر والضحكات الهستيرية التي كانت تتردد في جنبات ذلك المعتقل الرهيب، بل بالتصوير المتكرر لتلك الجرائم، لتنقل أشرطة الفيديو الدموية كيما يتلذذ بمشاهدتها مراراً وتكراراً الأسد القابع في قاسيون، وهو ينظر إلى معارضيه كيف يقتلون وتمزق أجسادهم الميتة بيد زبانيته، ذات المشهد تكرر مئات المرات في مجازر حماة، ويتكرر اليوم في جميع البلدات السورية، ويصور بأحدث التقنيات ليتناقلها الجنود والضباط، تأكيداً لنصرهم المتوهم، على أبرياء مدنيين عزل، ومن يتشكك في هذا ليس عليه إلا أن يسأل سكان تلك المدينة الصحراوية الصغيرة "تدمر"، فبيوتهم لا تبعد عن جدران ذلك المعتقل إلا عشرات الأمتار، حيث كانوا يجلدون صباح مساء بأصوات تعذيبنا نحن المعتقلين.

الحرب على الإرهاب، عبارة تحركت بفعلها عشرات الجيوش، وأنفقت عشرات بل مئات المليارات من الدولارات في سبيلها، لكن تلك القوى العالمية، تتعامى بإصرارٍ، عن نظام يخلِّق الإرهاب ويرعاه ويقتات عليه، ولا يجد له سبيلاً للحكم وبسط السيطرة وإذلال المدنيين سواه، ما أبأس هذا العالم الذي نخلفه لأبنائنا عاجزين.

هل يمكن لمن يملك أدنى درجة من الحس الإنساني، أو المحاكمة العقلية السوية، أن يتوهم ولو للحظة أنَّ هذا النظام يمكن أن يؤتمن على ملايين السوريين المهجَّرين قسراً كي يعادوا إليه، وهل سلم موالوه من سطوته حتى يسلم معارضوه، وهل لبلدٍ تحكمه هذه الزمرة المجرمة أن يسمى بلداً آمناً؟

في كانون الثاني من عام 1990 تم اعتقال مانويل نورييغا حاكم بنما، ونقله من مقر البعثة الدبلوماسية للفاتيكان، التي التجأ إليها قبل أشهر، إلى الولايات المتحدة الأميركية، ليحاكم بتهمة غسيل الأموال والابتزاز، والاتجار بالمخدرات، ويحكم بالسجن مدة أربعين سنة أمضى منها سبعاً وعشرين سنة، بين سجون الولايات المتحدة وفرنسا وبنما، ليموت هناك إثر إصابته بالسرطان، لقد تمت إدانة حاكم بنما بتهم تعد إذا ما قيست لجرائم الأسد في سوريا عبث مراهقين، ومع هذا يبقى مجرم سوريا وبعد آلاف الإدانات بجرائم ضد الإنسانية، حراً طليقاً ممسكاً بحكم سوريا ولو صورياً، تحت حماية إيرانية وروسية مباشرة وأمام صمت العالم أجمع.

لن يتوقف المشهد الأسود عند هذا الحد، فنظام الأسد يعلم أنه بلغ أعتى مراتب الجريمة، وأنَّ مزيداً من القتل لن يزيد من رتبته الجرمية، بل ربما يعمد للمزيد من الجرائم، كي تكون كلفة إزاحته أكبر بما لا يقاس، من كلفة الرضوخ لبقائه، وهو يجرم الآلاف من مواليه وجنوده، ويستمرئ تغميس أيديهم بدماء السوريين عمداً، كي تكون المحاسبة المتخيلة مستقبلاً، ضرباً من المحال، وغداً وبعد غدٍ سينكشف الغمر عن جرائم أخرى، لم يعد في صدور السوريين متسعٌ لمزيد من الألم كي يحتملوه، ربما ستشوهنا هذه الحرب، وتقتل في الكثيرين منا القدرة على الصفح والتسامح، واحتمال مزيد من الألم، لكنها ستكشف دون أدنى شكٍ، عن فداحة تشوه هذا العالم، الذي نزعم أنه متحضر.