icon
التغطية الحية

نشأة وتطور النقود.. من نظام المقايضة إلى العملات المشفرة

2022.08.23 | 07:37 دمشق

نقود
محمد أوزملّي
+A
حجم الخط
-A

مع تطور المجتمع البشري، بدأت العلاقات السلعية الأولى تظهر وتتطور تدريجياً بين الأفراد، ولكن منذ البدايات الأولى للتطور البشري وحتى العصر الحجري الأول كان الاقتصاد في حالة اكتفاء ذاتي، وكان الناس يحصلون على جميع السلع والخدمات الضرورية من خلال عملهم أو أنشطتهم. فعلى سبيل المثال، كان الشخص إذا احتاج إلى سلاح لاصطياد الفرائس، فعليه أن يصنعه بنفسه.

ومن خلال اللقى والاكتشافات الأثرية فإن هذه الفترة بقيت حتى أواسط العصور الحجرية، ولكن ما لبثت أن تغيرت مع زيادة السلع التي يحتاجها الإنسان وتنوع الأنشطة التي يمارسها لإنتاج هذه السلع، فأصبح من الصعب على الفرد الواحد أن يقوم بإنتاج كل ما يحتاجه من السلع بنفسه، فاكتفى بإنتاج نشاط تجاري واحد، تاركاً غيره من الأفراد لكي يتخصصوا بالأنشطة التجارية الأخرى، فولدت مع هذه الفترة بين الأنشطة التجارية المختلفة ما يسمى بالمقايضة.

نظام المقايضة

 مع زيادة الحاجيات لدى الإنسان القديم بدأ نوع جديد من العلاقات الاقتصادية في الظهور، فكما ذكرنا سابقاً لم يكن على الفرد أن يصنع كل شيء بنفسه. علاوة عن ذلك، كان لا بدَّ له من استخدام المقايضة إذا احتاج إلى بعض السلع التي لا يمكنه إنتاجها بشكل مستقل. وكان هذا التغيير بمثابة قفزة اقتصادية كبيرة إلى الأمام وأدى إلى تسريع التنمية البشري

المقايضة في التجارة دون استخدام المال - لوحة ل اولوس ماجنوس 1555

فنظام المقايضة هو أقدم طريقة للتجارة ويعود تاريخه إلى قرابة 6000 سنة قبل الميلاد، أي قبل فترة طويلة من اختراع العملة النقدية، حيث كان الأفراد يتاجرون في الخدمات والمنتجات مقابل عناصر أخرى، أي عملية تبادل البضائع بين طرفين أو أكثر من دون استخدام النقود، ولكن يجب أن تكون البضائع المتبادلة ذات قيمة للأطراف المعنية. على سبيل المثال: "يمكن استبدال الزبدة بالخبز، أو يمكن تعويض الحداد الذي يصنع أدوات الزراعة للفلاح بما يعادل العمل المنجز من منتجات الزراعة".

ورغم أن نظام المقايضة سد الكثير من ثغرات التجارة البدائية لدى الإنسان لفترة زمنية طويلة، إلا أن له أيضا أوجه قصور كبيرة، إذ لم يكن من السهل العثور على أجر مماثل في نفس الوقت، وكان من المستحيل أيضًا تقسيم بعض السلع، وبعضها الآخر سريع التحلل أو التلف، مثل الفاكهة واللحوم وما إلى ذلك، ولهذا كان لا بدَّ من تغير يحاكي ويسد مستلزمات عجلة التطور عند المجتمعات.

النقود المعدنية

مع تقدم الحضارة الإنسانية واكتشاف المعادن مثل الذهب والفضة والنحاس والبرونز، تحولت أموال السلع إلى نقود معدنية. حيث تم سكّها واستخدامها لتكون العملة البديلة عن المقايضة، لسهولة التعامل معها وإمكانية التحقق من كميتها بسهولة، فكان هذا هو الشكل الرئيسي للنقود عبر الجزء الأكبر من التاريخ المسجل. 

في مصر وبلاد الرافدين والصين

بعض الحضارات القديمة تداولت المعادن فيما بينها، ولكنها لم تسك النقود منها إلا في فترات لاحقة، فالحضارة الفرعونية التي استخدمت الذهب منذ ما يقارب ال 1900 سنة قبل الميلاد، كانت تستخدمها للمجوهرات من خواتم وقلائد وأقراط وسبائك وما إلى ذلك، ولم تسك النقود إلا في القرن الرابع قبل الميلاد.

أما في بلاد الرافدين  فى عهد الملك الآشوري سنحاريب (681 ــ 704 ق.م) ــ فقد أمر بسك النقود المعدنية والتي كان تسمى "الشيكل/ الشاقل"؛ حيث كانت تستخدم هذه الكلمة في فترات سابقة كوحدة الوزن في بلاد ما بين النهرين قبل أن تكون كعملة معدنية في عهد الملك سنحاريب، والتي سهلت الكثير من المعاملات التجارية كسلعة وسيطة، فقد ورد في الكتابات التاريخية على لسان الملك سنحاريب:

"لقد أمرت بصنع قوالب من الطين وأن يصب البرونز فيه لصنع قطع نصف شاقل".

وكانت النقود البابلية "الشيكل" تضرب كقطع صغيرة من الفضة والبرونز مختومة ببعض الشعارات مثل رأس عشتار أو رأس شمش أو بعض الملوك. ولكنه لم يتم اكتشاف القطع المعدنية وإنما تم الكشف عن لوحة طينية ذكر فيها كيفية سكّها بأمر من الملك.

رغم تداول "الشيكل" في أغلب ممالك بلاد ما بين النهرين إلا أنها لم تكن العملة المعدنية الأقدم. حيث قدمت لنا الصين أول عملة معدنية صنعت في القرن الثامن قبل الميلاد، وكانت مكونة من مجرفة مصغرة، وخطافات مع نقوش تشير إلى السلطة، ولكن لم تكن على شكل العملات المعدنية الاعتيادية (الدائرية أو البيضوية)، كما سكّتها مملكة ليديا في وقت لاحق يقدر في القرن السابع قبل الميلاد.

ينغ يوان - عملة معدنية صينية  حوالي 750 قبل الميلاد

النقود في الغرب

تم سك العملة الرسمية للإمبراطورية الليدية _ وتقع غرب الأناضول (تركيا حاليا)- التي ازدهرت لسنوات عديدة قبل أن تقع تحت سيطرة الإمبراطورية الفارسية، ويُعتقد أنها من أقدم العملات المعدنية حيث يعود تاريخها إلى النصف الثاني من القرن السابع قبل الميلاد تقريبًا في عهد الملك آلياتيس، وهي عبارة عن أسد صارخ ويقابله ثور (وهو شعار الليديين)، ويتفق مؤرخو النقود على أن العملة المعدنية الليدية المصنوعة من الإلكتروم ( وهو خليط من الذهب والفضة بالإضافة إلى كمية صغيرة من النحاس لزياد المتانة) كانت أول عملة تصدر رسميًا وكانت بمثابة نموذج لجميع العملات اللاحقة تقريبًا في كل مكان بسبب أهميته وتميزها.

عملة ذهبية من مملكة ليديا تعود للقرن السادس قبل الميلاد

كما أتت أهمية الدينار الليدي من كونه عملة موحدة ورسمية يصعب تزويرها ومعترفا بها في كل أرجاء المملكة والممالك المجاورة بموجب مرسوم صادر عن الحكومة أو السلطة .فقد كان  الشعب الليدي ماهراً ومتميزاً بالتجارة وهذا ما أعطى أهمية كبيرة لعملتهم، ما دفع الإمبراطوريات الأخرى لاحقاً بتقليدها وسك عملاتها الخاصة مرفقةً بشعار كل مدينة كاليونانيين الذين اصدروا عملتهم الخاصة (الدراشم- الدراخما أو الدرهم) في القرن السادس قبل الميلاد وكانت مصنوعة من الفضة على غير الدينار الليدي الذهبي، وكان يصور عليها رموز مختلفة بحسب الفترات الزمنية، منها (عجلة بأربعة قضبان– سلحفة– دلفين – بومة) أو صور ملوك وآلهة ( زيوس - أثينا  أو فيليب الثالث – الإسكندر الأكبر وغيرهم من الملوك والآلهة).

الدرهم اليوناني المستخدم في أجانيطس . وجه العملة عليه سلحفاة. و الظهر عليه كلمة (ΑΙΓ(INA و رسم دولفين , تعود لحوالي القرن السادس قبل الميلاد

وأخذت بعدها تظهر أشكال عديدة للعملات المعدنية مخصصة بصورها رموزاً خاصة للإمبراطوريات، ولكن على الشكل الدائري والبيضوي الذي ابتكرهُ الليديون.

  الدرهم اليوناني 360 قبل الميلاد الوجه رأس زيوس الخلف الحورية أوليمبيا 
درهم يوناني - وجه هيراكلس -هرقل - والخلف زيوس حوالي القرن الثالث قبل الميلاد

في سنة 546 قبل الميلاد هاجم الفرس واحتلوا مملكة ليديا في زمن الملك كرويسوس "ملك ليديا" ونتيجة لذلك، انتشر استخدام العملات المعدنية في بلاد فارس. فقد سكّ (داريوس) ملك الفرس عملته الخاصَّة قبل بداية القرن الخامس قبل الميلاد، وأطلق عليها اسم (رامي السِّهام) لأنّها صوَّرت مقاتلاً يحمل القوس والسَّهم، مستفيداً من إرث ليديا والدِّينار الليديِّ الذي رسم البداية للعملات الرَّسميَّة.

عملة اخمينية - فارسية - رامي السهام - تعود للقرن الخامس قبل الميلاد

وفي سنة 269 قبل الميلاد بدأ الرومان في استخدام العملات المعدنية وبدأوا في سك عملاتهم الفضية مصطحبة رموزهم، وصور لآلهتهم، وأباطرتهم، وملوكهم. واستمر بعدهم البيزنطيون بسكّ (الدرهم الفضي والدينار الذهبي)

بقيت العملات المعدنية متداولة بأشكالها الفنية المخصصة لفترة طويلة من الزمن، فشهدت تطورات كثيرة من حيث نوع المعدن ونقاوتهُ والذي كان يتم من خلالها تحديد قيمته، ولكن مع مضي الوقت وزيادة التجمعات السكانية ما لبثت أن بدأت تظهر بعض المشاكل من (تكلفة التخزين ومخاطر نقل النقود السلعية من قبل التجار من مكان لآخر والتي كان من أهمها معدني الذهب والفضة وغيرها من المشاكل ضمن السوق التجاري) كلها اجتمعت لترسم خط النهاية لرحلة العملة المعدنية الطويلة، وتفتح في القرن الرابع الميلادي الطريق لظهور العملة الورقية والتي ستقوم بثورة ومرحلة انتقالية مهمة للغاية في تطور النقود  داخل السوق التجاري ورأس المال.

العملة العربية الإسلامية

تعامل المسلمون بالدراهم والدنانير البيزنطية والفارسية حتى بعد أن جاء فرض الزكاة، من دون أن يطرأ على هذه النقود أي تعديل في شكلها الفني أو في مضمون الكتابات الموجودة عليها حتى عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب (634-644 م). فعلى الرغم من انشغال المسلمين حينها بالفتوحات، أرادوا إبراز شخصيتهم المستقلة على النقود فأضافوا إلى طابعها الأصلي كلمات عربية مثل "الحمد لله" و"محمد رسول الله" وأسماء الخلفاء الراشدين.

نققود
نقود إسلامية

ولكن أكبر تغيير حدث في النقود الإسلامية حصل في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان جراء خلاف بينه وبين ملك الروم، دفعه إلى استبدال النقد الرومي بنقد إسلامي، وأصبح النقد يُضرب في بلاد الإسلام وتسك النقود يدوياً، إلى أن ظهرت الآلة التي تُسك بها القطع المستديرة عام 1870 في اليابان لتنتقل منها إلى بلدان العالم.

العملة الورقية

مرة أخرى كان للصين الدور السبّاق في تغير شكل التداول في الرأس المال العالمي، ففي الوقت الذي كان العالم كلهُ يتداول العملات المعدنية فيما بينهم كانت الصين في القرن الثامن الميلادي في عهد "أسرة تانغ" تستخدم الأوراق كبديل للعملة المعدنية.

 في البداية لم تكن العملة الورقية الصينية كما نعرفها بشكلها ومضمونها الحالي، فقد كانت عبارة عن سندات إذنية (إيصالات ورقية) حيث كانت تترك السلع عند شخص يُثق فيه ويأخذ بدل منه إيصال ورقي  يسجل عليه المبلغ الذي تم إيداعه، ولم تكن تستخدم إلا على نطاق ضيق (الأسرة الحاكمة والتجار)  ولكن هذا النطاق الضيق بدأ في التوسع، فبحلول القرن الحادي عشر، خلال عهد أسرة سونغ، تم طباعة وإصدار عملة JIAOZI - جياوزي رسميًا (وهو شكل من أشكال الأوراق النقدية اعتبرت أول نقود ورقية في العالم من قبل علماء العملات).

Jiaozi  جياوزي عملة ورقية صينية ظهرت لأول مرة في مقاطعة سيشوان في الصين في القرن العاشر الميلادي و تتبع لسلالة سونغ الصينية

وأصبحت بهذا فكرة النقود الورقية في مناطق محددة من الإمبراطورية الصينية مركزية للغاية في الاقتصاد لدرجة أن حكومة سونغ قامت ببناء أول مصنع لطباعة الأوراق النقدية في مدينة "هانغتشو" بحلول عام 1175، وقد تطور هذا التداول الجديد للعملة لمدة مئة عام وانتشر في نطاق أوسع داخل الإمبراطورية مما دفع سلالة سونغ بإصدار معيارًا وطنيًا للعملة الورقية مدعومةً بالذهب أو الفضة بين عامي 1265 و1274. فأصبحت النقود الورقية هنا راسخة، لدرجة أن تصميمات الأوراق النقدية غالبًا ما كانت معقدة بشكل متعمد لمنع التزوير.

العملة الورقية في أوروبا

كان لكتاب "رحلات ماركو بولو" للكاتب والمغامر الإيطالي ماركو بولو فضلاً في ترويج فكرة تداول العملة الورقية والذي شرح عنها في كتابه بعد رحلته إلى الصين والتي بقي فيها لمدة 17 عاماً، حيث وصف كيفية استخدام النقود الورقية في ظل حكم سلالة يوان قوبلاي خان في القرن الثالث عشر، مما شجع الدول الأوربية لهذه الخطوة وأخذها زمام المبادرة من الصين، بدءًا من السندات الإذنية المماثلة التي تطورت لاحقًا إلى النقود الورقية.

البنوك والسندات المالية الأولى

في حلول القرن السابع عشر، كان صائغو الذهب في لندن يصدرون إيصالات مستحقة الدفع لحامل المستند، بينما شهد عام 1661 في السويد تأسيس أول بنك مركزي "Stockholms Banco" السويدي. والذي حاول إصدار الأوراق النقدية، ولكن لسوء الحظ أفلس البنك بعد فترة وجيزة، ولذلك تُرك الأمر لبنك إنكلترا -الذي تأسس عام 1694 للمساعدة في تمويل حرب التسع سنوات للملك ويليام الثالث ضد فرنسا– ليبدأ معها إصدار الأوراق النقدية بشكل دائم عام 1695. فعلى الرغم من أن هذه الأوراق النقدية كانت مكتوبة بخط اليد وبمبلغ محدد، إلا أنها أصبحت عام 1745 أوراقًا ذات فئة ثابتة تتراوح بين 20 و1000 جنيه إسترليني لتُصدر فيما بعد سنة 1793 الأوراق النقدية فئة جنيه إسترليني واحد و2 جنيه إسترليني كوسيلة لتقييد الدفع من الذهب.

ورقة نقدية من فئة مائة ريكسدالر (اسم عملة سويدية سُكت للمرة الأولى عام 1604) صادرة عن - Stockholms Banco وموقعة من قبل Johan Palmstruch ،  1666

وفي عام 1844 أدى قانون ميثاق البنك والذي قيدا من صلاحيات البنوك البريطانية ومنح صلاحيات حصرية لإصدار الأوراق النقدية لبنك إنكلترا المركزي. حيث أصبح بهذا بنك إنكلترا وحده هو الذي يمكنه إصدار عملات ورقية جديدة، والمستحكم الوحيد في المعروض النقدي ولا يمكن إصدار الأوراق النقدية الجديدة إلا إذا كانت مدعومة بنسبة 100 ٪ بالذهب.

أما اليوم فقد اتخذ المال شكل كل شيء من الدولار الأميركي إلى العملات المشفرة مثل البتكوين، وبفضل إنشاء الأموال الحديثة، أصبح الشراء والبيع والتداول أسهل من أي وقت مضى، ويسعنا القول إنه وعلى الرغم من أن هناك الآن طرقًا أكثر للدفع مقابل الأشياء، إلا أن أسباباً كثيرة تدعو للاعتقاد بأن النقود موجودة لتبقى- على الأقل في الوقت الحالي.


المراجع :
-THE HISTORY OF PAPER MONEY
https://clearjunction.com/blog/the-history-of-paper-money/
- بحث THE HISTORY OF MONEY (From Its Origins to Our Time)
http://www.jamesrobertson.com/book/historyofmoney.pdf
- د. أسامة العاني - نشأة النقود وتطورها - 2020