"نداء إيران": امرأة حياة حريّة

2022.10.05 | 07:00 دمشق

"نِداء إيران": امرأة حياة حريّة
+A
حجم الخط
-A

إذاً، النساء الإيرانيات في الصفوف الأولى هذه المرة. وللنساء في ميدان الثورات تجارب كثيرة. رغم محاولة المجتمعات، خصوصاً في الشرق، الحدّ من دورهنَّ، في محاولة لإبقائهن على الهوامش، وعدم اقتحام المتن. توردُ الموسوعة البريطانية "بريتانيكا" معلوماتٍ عن إحدى وخمسين ثورةً وتمرداً بقيادة النساء في التاريخ، إحداهنّ حسب الموسوعة كانت الأميرة تشيليدونيس 280 ق.م، التي علّقت في عنقها حبل مشنقة،  لتؤكد أنها عصية على السبي، أثناء حصار إسبارطة.

حين شاهدتُ نساء إيران يخلعنَ غطاء الرأس غضباً وتمرداً، تذكرت خليل مطران وهو يروي في واحدة من قصائده، الموقف الشجاع لابنة الوزير التي "رفعت سترها" اعتراضاً على قرار كسرى الثاني بإعدام وزيره، أباها "بزرجمهر". أربعة عشر قرنا تفصل بين ابنة الوزير المتمردة على حفيد "أنوشروان" ومهسا أميني، وبرغم فرق الدافع بين ما أقدمت عليه ابنة الوزير، وما تصنعه نساء إيران اليوم، لكن المشترك بين المشهدين كثير.

لم ينسَ العالم صورة المرأة الإيرانية "ندا آغا سلطان"، وهي مستلقية على رصيف في طهران تنزف الدم، وعيناها شاردتان تنظران باتجاه الكاميرا، بعد أن تلقت رصاصة في أعلى الصدر

هذه ليست أولى انتفاضات إيران. سبقتها انتفاضة الطلاب في العام 1999، ثم الثورة الخضراء في العام 2009، وحتى لو تم قمع الثورة اليوم، وهذا هو الأرجح لدى النظم الفاشية، فسوف تكون هناك انتفاضة أخرى في العام التالي، فلا قدرة لنظام من العصور الوسطى على معالجة أسباب الثورة.

رداً على انتفاضة 2009، قام نظام الملالي بقتل ثلاثة آلاف امرأة ورجل وطفل. حتى يومنا هذا، لم ينسَ العالم صورة المرأة الإيرانية "ندا آغا سلطان"، وهي مستلقية على رصيف في طهران تنزف الدم، وعيناها شاردتان تنظران باتجاه الكاميرا، بعد أن تلقت رصاصة في أعلى الصدر، كانت طالبة الموسيقا يومها بعمر 27 سنة.

ما زال حديث "كاسبين ماكان" عن خطيبته ندا لإذاعة bbc باللغة الفارسية متداولاً عالمياً ومحلياً حتى الآن: "كانت تريد الحرية لإيران، وطالما رددت، سأكون خطوة للأمام إذا تلقيت رصاصةً في القلب". كانت الاحتجاجات قد عمّت المدن الإيرانية إثر إعلان فوز محمود أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية التي طعن الإيرانيون بنزاهتها، واتهموا السلطات بالتزوير.

في العشرين من حزيران/يونيو عام 2009، نفّذ أحد عناصر "الباسيج" أوامر رؤسائه بإطلاق النار على متظاهري الحرية، وكانت الضحية ندا. سيطلق عليها الإيرانيون في اليوم التالي لقب صوت إيران أو "نداء إيران" متكئين على دلالة ومعنى الاسم باللغة الفارسية.

تمكنت قوات الباسيج من قمع الثورة الخضراء عبر القتل والتنكيل، لكنها كانت بذلك إنما تقوم فقط بتجميد "تفريز" الغضب، وتأجيل انتصار الفكرة. قتل آلاف الإيرانيين؟ نعم. لكن الفكرة بقيت حية، "خطوةً للأمام" كما آمنت ندا آغا سلطان.

عادت الخطى في العام 2018، لكن بتحفظ. تحفّظٌ سوف يكسره سوء الأوضاع المعيشية وارتفاع أسعار الوقود في العام التالي 2019، الذي شهد انطلاق انتفاضةٍ شعبيةٍ واسعة، تجاوز عدد المحتجين فيها مليون ونصف بحسب وكالات الأنباء العالمية. وبلغ عدد القتلى ثلاثمئة، حسب منظمة العفو الدولية، وقرابة الألف بحسب المواقع الرسمية للمعارضة الإيرانية، بالإضافة لآلاف حالات الاعتقال، ليتمكن الولي الفقيه مرة أخرى من البقاء لسنوات تالية. كم هي مقدسة ولاية الفقيه! حتى تراق على مذبحها كل هذي الدماء. آلاف من الضحايا الأبرياء، بينهم أكثر من أربعمئة طفل.

قداسة الفقيه هذه، لم تعد بضاعة رائجة لدى نساء إيران. عادت ابنة الوزير مرةً أخرى عام 2022 رافعةً ستر رأسها، متجسدة في "مهسا أميني"، مع فارق إيمان أميني الأكيد أنّ "في هذي الجموع رجالا". خطوةٌ أخرى بعد خطوة "ندا آغا سلطان" تضاف للمسيرة.

إنها مسيرة أمة وشعب عريق يصرُّ على أن يخلع السواد. اختلط الأمرُ على البعض، بأنّ نساء إيران يناصبن العداء للدين والحجاب، خلطٌ عززته ماكينة إعلام الخامنئي، هادفةً إلى العبث بمشاعر شريحة من المجتمع الإيراني، وصناعة خندق مضاد. خندق يساعد الباسيج في إنجاز مذبحة جديدة، تضاف إلى ما سبق. بينما تؤكد الإيرانيات أنهن يرفضن "الإجبار" على الحجاب.

في تصريح لوكالة يورو نيوز تقول "مسيح علي نجاد" الصحفية الإيرانية والناشطة في مجال حقوق المرأة: "الحجاب الإجباري، ليس مجرد قطعة صغيرة من القماش، إنه مثل جدار برلين. وإذا تمكنت النساء الإيرانيات من هدم هذا الجدار، فلن يبقى هناك وجود للجمهورية الإسلامية". قراءة سريعة لحديث "مسيح" تؤكد أنه ليس هناك "دعوة للفجور" كما يتحدث الإعلام الرسمي الإيراني كل يوم. كلمة "إجباري" بعد كلمة الحجاب لم تأتِ عفو الخاطر، إنها لبّ المشكلة.

غردت "مريم رجوي" رئيسة المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، المعارضة لنظام الملالي، عبر حسابها على تويتر قبل أسبوع: "‏شهداء ثورة الشعب الإيراني أكثر من 240 والمعتقلون أكثر من 12000 شخص. الانتفاضة عمّت 156 مدينة، ولا يمكن احتواؤها بالقمع الوحشي وقطع الإنترنت. سلطة خامنئي السوداء ستزول بيد أبناء الشعب الإيراني، وبشكل خاص النساء الشجاعات".

لعل انضمام مدينة "قم" للانتفاضة يعطي مؤشرات ذات دلالة واضحة، بأن المرأة قادرة على جمع ما فرقته الأيديولوجيا والديموغرافيا، ولعلها تجربة تستحق التأمل من بقية الشعوب الثائرة في المنطقة

الامتداد الجغرافي والعرقي والديموغرافي الإيراني للانتفاضة، مهم جداً لتحقيق حلم الحرية، وانكفاء أي مكون من مكونات الشعب أو تهميشه خطر على مشروع التغيير، بقدر خطورة احتكار مكون ما للحلم والمظلومية، فنراه داخلاً الميدان وحده. لعل انضمام مدينة "قم" للانتفاضة يعطي مؤشرات ذات دلالة واضحة، بأن المرأة قادرة على جمع ما فرقته الأيديولوجيا والديموغرافيا، ولعلها تجربة تستحق التأمل من بقية الشعوب الثائرة في المنطقة.

هل تعني انتفاضة الإيرانيين اليوم أن شعوب المنطقة بدأت بامتلاك وعي جديد، يجعلها تتوقف عن الانصياع لمخططات المقامرين باسم الدين أو المتاجرين بالأحلام القومية؟ لينضموا إلى جموع المؤمنين بما آمنت به فتاة قدمت قلبها لرصاصة القناص، ليكون خطوةً إلى الأمام؟ لا جواب أكيد، مع أن الموروث الفارسي يقول إن الأمر ممكن جداً، وأمثالُ الشعوب تعبر عن وجدانها. "اليد الناعمة تقود الفيل بشَعرَة" يقول مثلٌ فارسيّ قديم.