نحو عقد اجتماعي جديد

2022.10.24 | 06:37 دمشق

نحو عقد اجتماعي جديد
+A
حجم الخط
-A

بحضور السيد هادي البحرة رئيس "اللجنة الدستوريّة" والسيد عبد الرحمن مصطفى رئيس "الحكومة المؤقّتة"، ومندوبين عن الحكومتين التركية والأميركيّة والاتحاد الأوروبي وحضور نحو 100 ناشطة وناشط عقدت: "وحدة دعم الاستقرار" يوم 11 الشهر الحالي ما سمّته: "المؤتمر السياسي الرابع" في مدينة عنتاب التركية تحت عنوان: " تطلعات المجتمعات المحلية لعقد اجتماعي سوري جديد".

وربّما يمكن إعادة قراءة الحدث في سياقه كالآتي: المعارضة السوريّة، القرار الدولي 2254، سلال ديمستورا الأربعة، سلة الدستور، اللجنة الدستوريّة.. ومن قضايا الدستور العقد الاجتماعي. وقد لا نحتاج إلى القول إنّ الثورة اختلفت مع المعارضة على طول الخط. لكن هل يمكن أن تختلف أيضا في قضيّة "العقد الاجتماعي"؟

لماذا يتجنّى السوريون على المعارضة، وهل ثمّة اختلاف بين معارضة وثورة؟! إذ قال السيد هادي البحرة خلال الجلسة: لا يوجد معارضة في زمن الثورة.. كلّنا ثوّار.

وقبل الوقوف على ما إذا كان ثمّة اختلاف أم لا ربّما يمكننا الوقوف على بعض من النقاط المهمّة في موضوع العقد الاجتماعي: إذ منذ نهاية القرون الوسطى في أوروبا اكتشف العلم الطبيعي أنّ دم الملك - صاحب السلطة- لا يختلف عن دماء الرعيّة؛ فكان لذلك "الاكتشاف" أثر عظيم على نشأة مقولات العقد الاجتماعي لدى الفلاسفة: "هوبز وجون لوك وروسو" واتكأت مشروعيّة المطالبة بالعقد على مساواة الإنسان في "الحقوق الطبيعيّة" مع كل إنسان آخر حتّى لو كان ملكاً!

الغاية من العقد الاجتماعي كانت تأكيد الحقوق الطبيعيّة للأفراد المتساوين وعلى رأس تلك الحقوق "الحريّة" إذ يمتلك الإنسان الفرد إرادة حرّة وسلطة تعبّر عن تلك الإرادة

ثمة نقطة جوهريّة أخرى: وهي أن الغاية الرئيسيّة من العقد الاجتماعي لم تكن الفصل بين السلطات الثلاث "التشريعيّة والقضائيّة والتنفيذيّة" فهذه كانت تشهد شكلا من أشكال الفصل حتى في زمن الملك.. لكن الغاية من العقد الاجتماعي كانت تأكيد الحقوق الطبيعيّة للأفراد المتساوين وعلى رأس تلك الحقوق "الحريّة" إذ يمتلك الإنسان الفرد إرادة حرّة وسلطة تعبّر عن تلك الإرادة، تبدأ من سلطته على جسده وعلى الطبيعة.

تنتقل الحقوق "والحريّة على رأسها" من الحالة الطبيعيّة الخاصّة إلى الحالة المدنيّة العامّة عبر عقد اجتماعي بين الأفراد –بحسب لوك- حيث يكفل العقد "الحقوق المدنيّة لكل واحد منهم". لذلك فإنّ العقد المدني عند "لوك" هو عقد اتفاق بين الأفراد على إنشاء سلطة مدنيّة تحقّق مجمل إرادتهم الحرّة.

الفصل بين السلطتين الروحيّة والمدنيّة كان الخطوة التي سبقت كتابة العقد.. للفصل بين قضايا "مقدّسة" لا يمكن التفاوض عليها، وبين قضايا "ليست مقدّسة" ستكون محور العقد الاجتماعي المدني بين الأفراد.

ضمان "المدنيّة" أنّ الحقوق، التي تطوّرت عبر العقد من طبيعيّة إلى مدنيّة، لا يمكن الإطاحة بها من قبل أيٍّ من العاملين في الشأن المدني كنائبين عن الشعب في البرلمان أو كأحزاب سياسيّة.. إذ لو تمّت الإطاحة بتلك الحقوق لفقدت الحكومة المدنيّة والأحزاب السياسيّة الشرط المدني الذي يبرّر وجودهم.. ولعادت الشرعيّة للملك.

ثمّة مؤثرات أخرى لاحقة ألقت بثقلها على سيرورة العقد الاجتماعي المدني لعلّ أهمّها كان ظهور الأيديولوجيا من النظريّتين المعرفيّتين الكبيرتين: الهيغليّة ثم الماركسيّة. إذ بدأ عدم المساواة يطفو إلى السطح من جديد لكن بلبوس اشتراطات تنتمي إلى "مقدّس" آخر ليس سماويّاً هذه المرّة. وبدت الحريّة ليس بوصفها حقّاً طبيعيّاً تحفظه العقود المدنيّة بل ظهرت ذات بعد سياسي، ناتجة عن صراع، ومشروطة بـِ: الاعتراف بحسب هيغل، أو بـِ تجاوز الشرط المادّي لدى ماركس.

انهار نموذج الدولة الامبراطورية في العالم خلال فترة قصيرة نسبيّا بين عامي 1917 و1922 وانقسم العالم بعد الحرب العالميّة الأولى بين دولٍ مستقلِّة لكنّها مستعمِرة، وأخرى مُنتَدبة لم تعترف الدول المنتصرة بالحرب باستقلالها!

بعد انسحاب الجيش العثماني من "سوريا الكبرى" دافعت النخبة السورية الوطنيّة عن حق السوريين بالاستقلال فأقاموا مؤمراً وطنيّاً عام 1919 ليلتقي بلجنة "كينغ - كراين" المبعوثة من عصبة الأمم لـ "تقصي الحقائق بشأن مستقبل سوريا".

حاولت النخبة الوطنيّة تأكيد مدنيّة السوريين، وحين لمس الملك فيصل وقتئذ تآمراً على الحق السياسي للسوريين في عصبة الأمم عاد إلى دمشق، وأعلنت النخبة الوطنيّة دستور سوريا الكبرى عام 1920 وتقول المادة العاشرة منه: (السوريون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات).

اقتضت مصلحة المستعمِر الاعتراف بحق السوريين بالاستقلال السياسي لكن بعد تقسيم سوريا الكبرى إلى دول. واقتضت مصلحة المستعمر أيضا عدم الاعتراف بقدرة السوريين على بناء دولة مدنيّة، فانتدبت بريطانيا الأردن وفلسطين، وانتدبت فرنسا لبنان وسوريّا الحاليّة وأسقط الاحتلالُ إعلانَ الاستقلال الأوّل في العام ذاته 1920.

من السهل توجيه الشتائم إلى سايكس وبيكو اللذين وقّعا على تقسيم المنطقة إلى دول كما نراها اليوم، لكن من المهم أيضا أن نلاحظ ازدواجيّة الاعتراف بالحقوق بين السياسي والمدني. ولعلّنا حين نسمّي تلك النخبة السوريّة: نخبة وطنيّة، ليس لأنهم كانوا يمارسون "حقّهم السياسي في السعي للوصول إلى السلطة" فهذا اعترفت به فرنسا بعد تقسيم سوريا الكبرى، بل لأنّ تلك النخبة أرادت إبراز الحقوق المدنيّة للسوريين والاستناد إليها. إذ في حال لم يتم الاعتراف بالحقوق المدنيّة للشعب فإنّ كلّ عمل سياسي، بما في ذلك السعي إلى السلطة، سيفقد شرعيّته المدنيّة.

أرادت نخبة عام 1920 القول: إنّ الحريّة حق طبيعي بمنطق العقد الاجتماعي المدني لا هبة سياسيّة تمنحها دولة لأخرى بمنطق الاعتراف الهيغلي، أو تمنحه حضارة متقدّمة لأخرى متخلّفة كما يذهب "فوكوياما" اليوم!.. ولعلّ هذه الفكرة بالذّات استعادها المتظاهرون السوريّون سنة 2011 حين هتفوا بالحريّة في وجه نظام أنكر، عبر قانون الطوارئ وغيره، حقوقهم المدنيّة.

إذاً فثورة السوريين على نظام القمع الأسدي كانت لاستعادة الحقوق المدنيّة وليست عملا سياسيّا، لذلك هي ثورة لا معارضة.. والسيد هادي البحرة قال مثل هذا المعنى "لا يوجد معارضة فكلّنا ثوّار"، لكن هل سلوك المعارضة يثبِت بالفعل أنّ "كلّنا ثوار"؟!

ليست الحالة المسلّحة الرثّة في الشمال السوري الأسير في يد قوى الأمر الواقع غير انعكاس طبيعي للعلاقة بين المعارضة وبين الثورة

لعل مسيرة المعارضة طوال سنوات الثورة، لا تختلف عن مسيرتها النضاليّة قبل الثورة، فهي مزيج من المقولات والمواقف التي تُعبّر عن "حقّها في السعي للوصول إلى السلطة"، وأكّدت المعارضة هذا المسعى من خلال تقاسم ما حصلت عليه من سلطة، بعد ثورة السوريين، بين بعضها بعضا. أو في التفاوض السياسي باسم الشعب السوري للوصول إلى السلطة أو تقاسمها مع نظام الإجرام. كل ذلك في ظل غياب أي مؤشّر على التفكير بالاستناد إلى الحقوق المدنيّة للشعب السوري!

ليست الحالة المسلّحة الرثّة في الشمال السوري الأسير في يد قوى الأمر الواقع غير انعكاس طبيعي للعلاقة بين المعارضة وبين الثورة. إذ ليس تعدّياً على جهة القول: إنّ السلطة التي تحوزها المعارضة، السياسيّة والمسلّحة، كالسلطة التي يحوزها النظام؛ إنّما هي سلطة أمر واقع لم تتأتى من إرادة حرّة لمواطنين سوريين ومن ثمّ فإنّ تلك السلطات جميعها سلطات غير مدنيّة!

أخيرا وفي طريقة تقاسم سلطة المعارضة بالذات فإنّ العقود الاجتماعيّة الليبراليّة وإنْ كانت تسمح بتشكيل الأحزاب على أساس ديني أو طائفي أو عِرقي؛ إلّا أنّ ذلك بعد إقرار الحقوق المدنيّة لا قبلها أمّا التمثيل السياسي لـ "مكوّنات" ما قبل مدنيّة قبل الإقرار بالحقوق المدنيّة لكل فرد من كل مكوّن وإثنية وطائفة.. لعل ذلك لا يكون عملا سياسيّا مدنيّا بحال من الأحوال.