نحن وقمة هلسنكي

2018.07.16 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في "هلسنكي" الفنلندية، كانت أول قمة أمريكية-روسية عام خمسة وسبعين من القرن الماضي. وقتها، تم توقيع إعلان حول تحسين العلاقات بين الدول الاشتراكية والدول الرأسمالية. كان على رأس المعسكرين "جيرالد فورد" الرئيس الأمريكي؛ و"ليونيد بريجينيف" أمين عام اللجنة المركزية السوفيتية.

في هلسنكي، عام تسعين من القرن المنصرم، وضع الرئيس الأمريكي "جورج بوش" الأب اللمسات الأخيرة لأزمة الخليج بحضور آخر زعيم سوفييتي "ميخائيل غورباتشيف". وقتها كانت الإرهاصات الأولى لنهاية العراق.

في هلسنكي، عام سبعة وتسعين من القرن المنصرم، حدد "بل كلنتون" الرئيس الأمريكي موقع روسيا الجديد في النظام العالمي الجديد إثر لقائه هناك بـ أول رئيس لروسيا "بوريس يلتسن": دولة عالم ثالث ضخمة تشغّلها أمريكا وإسرائيل.

والآن، وبعد ذلك التاريخ بعقدين من الزمن، وفي هلسنكي - العاصمة الفنلندية الأوربية القريبة جغرافياً من روسيا - (وغير المنتمية لحلف وارسو الذي تبخر، وغير المنتمية لحلف النيتو الذي يزداد انتفاخاً) يلتقي رئيس أمريكا "دونالد ترامب" ورئيس روسيا "فلاديمير بوتين"؛ فماذا ومَنْ سيكون الضحية الأساس لهذا اللقاء؟ وهل سيوضع قرار بالأحرف الأولى لضم الجولان السوري المحتل؟!

هذا هو اللقاء الرابع بين {رئيس أمريكي} و{سوفيتي او روسي} في هلسنكي. يبدو أن هذا الرابع هو الأهم، ربما للأهمية الفعلية لأحد الرئيسين، والأهمية المزيّفة للآخر. أحدهما انتُخِب تحت شعار (سنجعل أمريكا عظيمة ثانية)؛ وآخر يريد أن يستعيد أمجاد إمبراطورية كان وأمثاله من المساهمين بتهديمها. الأخطر في كل ما سيرد هو أن أحدهما يعرف حقيقة الآخر، والثاني يتوهم بأنه يعرف حقيقة نظيره. يعرف ترامب أن الهاجس الأساس لبوتين هو أن يكون مقبولاً من قبل الغرب، الذي لا ينفك الهجوم عليه والتجريح به والنقد القاسي تجاهه. يعرف ترامب أن شركاء بوتين هم أكبر المستثمرين والمودعين للأموال في بنوك لندن، ويعرف أن بوتين ما وضع يده على القرم، وما قفز إلى سورية إلا ليقبض الثمن من الغرب؛ وما كان بإمكانه الاستعراض العسكري في سورية، والتحكم بالملف السوري إلا بإرادة أمريكية، وحتى إسرائيلية. يعرف ترامب أن المليون ومئتي ألف يهودي روسي الذين أتوا إلى إسرائيل؛ والذين كانوا الشغل الشاغل لأمريكا قبل انهيار إمبراطورية السوفييت؛ هم عزوة بوتين واللوبي الداعم له في الغرب عامةً، وفِي إسرائيل خاصةً. يعرف ترامب أن من سيواجهه ليس إلا أداة تم استخدامها في الانتخابات الأمريكية الأخيرة لا لإفشال أو إنجاح أي من المرشحين بل لنسف أي مصداقية للانتخابات الأمريكية كي يسيطر عليها المحفل الأعلى.

وعلى صعيد قصتنا السورية التي لن تحتل  الا حيزاً ضئيلا من وقت الرئيسين، فإننا نعرف أن آخر اهتماماتهما إيجاد حل في سورية يكون فيه أي أنصاف لشعب سورية؛ فلا ترامب راغب في إخراج إيران من سورية ولا بوتين قادر على فعل ذلك؛ وكلاهما يعرف انه بقدر ازدياد التوترات في العالم، بقدر ازدهار تلك التي يريدها ترامب أن تكون عظيمة ثانية؛ اما بوتين، فهاجسه أن يبقى إمبراطوراً أبدياً يخدع الروس بوجوده، ويصوّر نفسه نداً للغرب، والمخلص الذي يريد أن يعيد عظمة روسيا وإمبراطوريتها؛ والفقر يدوس المجتمع الروسي، والخوف من دكتاتورية بوتين تسحقها.

الأخطر في هذه القمة، وبناء على وضع كل منهما، وعلى الفروقات في موازين القوى، وعلى الاختلاف في هواجس كل منهما؛ وخاصة الرغبة الجامحة عند بوتين بتقديم أوراق اعتماده للغرب ولأمريكا بالذات، أن تتحقق مقولة: "منح من لا يملك لمن لا يستحق"؛ والحديث هنا بالتحديد عن الجولان السوري الذي احتلته إسرائيل عام سبعة وستين من القرن المنصرم؛ حيث أنه من المعروف أن إسرائيل مرّرت قراراً عام واحد وثمانين يقضي بضم الجولان السوري؛ الأمر الذي اعتبره مجلس الأمن الدولي لاغيا" وباطلا (null and void). لا بد في هذا السياق من أن نذكر زيارة نتنياهو لبوتين قبل قمة هلسنكي. ويُعتقد أن الأمر الذي تم التركيز عليه ليس إلا قضية ضم الجولان إلى الكيان الإسرائيلي عبر اللعب على مسألة الوجود الإيراني في سورية؛ ومقايضة انسحابها من تلك الحدود السورية في الجولان مقابل تنفيذ ما تريده إيران والمتمثل بالإبقاء على الأسد في السلطة.

إن ملامح هكذا صفقة تستلزم بائعاً رخيصاً يهب ما لا يملك، وما ليس من حقه، لمن لا يستحق؛ ومن أجل تحقيق قبول لأوراق اعتماده عند الغرب؛ وبذا يكون ترامب قد أدى الخدمة الجليلة الثانية للكيان الصهيوني بعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ ضامناً بذلك فترة رئاسية ثانية دون أي قلق. وتكون إيران أيضاً قد ضمنت استمرار عميلها ووكيلها في دمشق.

رغم أن قراراً كهذا، إذا صدر، لن يغيّر طبيعة الجولان ولا عروبته ولا سوريته؛ ولن يكون مصيره إلا ما صدر عن مجلس الأمن عام واحد وثمانين، إلا أن السوريين- وفي ظل سلطة الاستبداد وأعوانها الأرخص بتاريخ البشرية - لا حل أمامهم  إلا مقاومة شعبية تترجم روح ثورتهم في الحرية والديمقراطية عبر برنامج قد يطول عقودا يترجم روح ثورتهم التي ستغير العالم رغما عن ترامب الذي لا يقلقه إلا المزيد من مال العالم، وبوتين الذي لا يملأ ويعوّض مركبات نقصه إلا المزيد من الدم والدمار؛ ما أمام السوري إلا مقاومة شعبية طويلة الأمد قوامها تطوير الوعي السوري وتفعيل الثقافة والإرادة والتصميم في استعادة وطن يراد له أن يتفلت من بين أصابعهم. قمة اليوم ترجمة لمرض عالم يتحكم بمصيره مرضى.