مَنْ يحمل وزرَ الأستانات؟

2019.07.26 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لقد دشّن بوتين مسار أستانا في 23 من كانون الثاني 2017، وهو يحمل تحت إبطيه منجزاً هامّاً بالنسبة إلى الروس، ويتمثل بإعادة احتلال حلب الشرقية، وتهجير سكانها مع بقية الفصائل العسكرية، وتمكين نظام الأسد من السيطرة عليها من جديد، وقد تعزز هذا المنجز الروسي باجتراح مسار، قيل – آنذاك – أنه لن تكون من مهامه أو محدداته البحث في المسائل السياسية، بل سيكون مساراً خاصاً بالشأن الميداني، وأنه سيُعنى بالدرجة الأولى بوقف إطلاق النار بين الأطراف المتحاربة، وكذلك ببعض القضايا الإنسانية الأخرى، مثل فك الحصار عن البلدات والقرى المحاصرة، وإيصال المساعدات لمحتاجيها، وكذلك البحث في قضية المعتقلين، وبالفعل كانت هذه المسائل على قائمة أولويات أول وفد للمعارضة يشارك في محادثات أستانا برئاسة محمد علوش، إلّا أن استجابة الروس لتلك المطالب أو الأولويات كانت معدومة، فلم يَعِد الروس  (كتابياً) بوقف إطلاق النار، بل جلّ ما وعدوا به هو أنهم سيوعزون – بصرامة – إلى نظام الأسد بوقف القتال في الريف الدمشقي، ولم يفعلوا ما وعدوا به، كما أنهم لم يقدّموا – بشكل ملموس – أي رؤية عملية بشأن قضية المعتقلين أو إدخال المساعدات الإنسانية إلى البلدات المحاصرة، علما أن هذه المسائل مشمولة بالبنود 12 – 13 – 14 – من القرار 2254.

وعلى الرغم من تتالي اللقاءات في العاصمة الكازاخية، إلّا أن اللقاءات الأكثر مفصليةً في هذا المسار هما اثنان، الأول: كان بتاريخ الرابع من أيار عام 2017، وهو ما أُطلق عليه (أستانا 4)، الذي أفرز ما سُمّي ب (مناطق خفض التصعيد)، ولا يخفى – حينذاك – مدى التفاؤل الذي أبداه وفد المعارضة السورية المتمثل بعدد من قادة الفصائل العسكرية الذين تم تطعيمهم ببعض الشخصيات السياسية، ظنّاً بأن الروس قد صدقوا ما عاهدوا عليه، وأنهم يوشكون على أن يكونوا صادقين في حرصهم المزعوم حول حقن الدماء وعدم الاستمرار بالإجرام، إلّا أن النتائج كانت أبلغ مما توهمه مفاوضو المعارضة، إذ إن ثلاثة من هذه المناطق المشمولة بخفض التصعيد (حمص – الغوطة الشرقية – درعا) قد أصبحت هي الأكثر تصعيداً، وذلك من خلال اجتياحها من قبل النظام المدعوم روسياً، وانتهت إلى مناطق كارثية بالنسبة إلى سكانها الذين تم تهجير أكثرهم، كما تم اعتقال قسم من هؤلاء السكان، وزج عدد غير قليل في أتون جيش النظام لكي يعودوا إلى توجيه سلاحهم إلى صدور أهلهم من جديد.

أما اللقاء الثاني من حيث الأهمية فقد كان بتاريخ (25 – 26 نيسان 2019) وهو ما أطلق عليه (أستانا 12)، إذ سبق هذا اللقاء زيارة لوفد روسي إلى السعودية برئاسة المبعوث الخاص للرئيس بوتين (الكسندر لافرنتييف)، ومعاون وزير الخارجية (سيرغي فيرتشينين)، اللذين التقيا ولي العهد محمد بن سلمان، كما التقيا في مقر السفارة الروسية

النتيجة التي تمخض عنها لقاء أستانا 12، لم تختلف كثيراً – من حيث فداحة المأساة – عن نتائج أستانا 4

وفداً من هيئة التفاوض السورية برئاسة السيد نصر الحريري الذي أبدى تفاؤلاً واضحاً في أعقاب لقائه بالمسؤولين الروس، مؤكّداً أن (أستانا 12) سينجم عنه انفراج هام فيما يخص تشكيل اللجنة الدستورية، ومتوهّماً في الوقت ذاته، بأن بوتين سيُرغم نظام الأسد على الانصياع للمشاركة الفعّالة في المفاوضات، ولعلّ النتيجة التي تمخض عنها لقاء أستانا 12، لم تختلف كثيراً – من حيث فداحة المأساة – عن نتائج أستانا 4، إذ كان التصعيد العسكري الأكثر دموية حيال إدلب وريف حماة الشمالي متوازياً من حيث التوقيت مع لقاء أستانا 12، وبات واضحاً منذ ذلك الحين، أن بوتين لن يُنهي مفاوضات أستانا دون أن يُجهز على ما تبقى من مناطق خفض التصعيد، حيث بقيت إدلب عصيّة على سيطرة قوات الأسد.

الاستعصاء الذي يواجهه نظام الأسد والروس، والذي يعود إلى استبسال الفصائل المقاتلة في الدفاع عن بلداتها وأهلها، ثم إلى الإمداد بالسلاح النوعي الذي تقدمه تركيا لتلك الفصائل، قد جعل بوتين يشعر بمزيد من الإحباط والارتباك، ما جعله لا يجد بديلاً عن الإيغال في الإجرام، فأوعز إلى طائراته باستهداف سوق شعبي مكتظ بالمواطنين في مدينة معرة النعمان يوم 22 – 7 – 2019، ما أودى بحياة أكثر من أربعين مواطناً، والعشرات من الجرحى والمصابين، وذلك توازياً مع مجزرة أخرى في اليوم ذاته في مدينة سراقب، راح ضحيتها العشرات من الموتى والمصابين.

يتزامن هذا التوحش الروسي الأسدي مع اقتراب لقاء (أستانا 13) الذي تؤكد العديد من الأخبار أنه سينعقد في مطلع شهر آب المقبل، فهل سيتمخض اللقاء المرتقب عن كارثة مرتقبة أخرى، أم أن بوتين قد أخذ حقه سلفاً بارتكابه مجزرتي معرة النعمان وسراقب؟

ما هو مؤكد أن استمرار الخلاف الروسي التركي حول التموضعات العسكرية في ادلب وشمال حماة، قد يُبقي استمرار

اثنا عشر لقاء عبر مسار جنيف، انتهت باختزال العملية السياسية في تشكيل لجنة لصياغة دستور جديد

القتال إلى أجل غير معلوم، ولعل استمرار القتال هو ما يسوّغ لبوتين إبقاء الخلاف حول تشكيل اللجنة الدستورية أمراً قائماً.

اثنا عشر لقاء عبر مسار جنيف، انتهت باختزال العملية السياسية في تشكيل لجنة لصياغة دستور جديد، واثنا عشر لقاء عبر مسار أستانا انتهت عند النتيجة ذاتها، أي لقد تماهى المساران مع بعضهما البعض من الناحية العملية، وبات الحديث عن عملية الانتقال السياسي حديثاً من الماضي، على حدّ تعبير أحد الشخصيات الضالعة في المفاوضات، والشيء الوحيد الذي تحقق بنجاح هو المسعى الروسي الرامي إلى تحييد القرارات الأممية، أو تفكيكها وإعادة تصديرها مشحونة بالرؤية الروسية.

مناطق خفض التصعيد التي ولدت من رحم أستانا، قضى فيها (2600) مواطن سوري، فضلاً عما تضمنته من تهجير قسري لآلاف المواطنين من بيوتهم وبلداتهم، وفي ظل استمرار العدوان الروسي الأسدي، وتجاهل المجتمع الدولي، ستبقى أبواب الكارثة مشرعة نحو المزيد من استباحة دم السوريين، فهل ستبقى أستانا (هي التي حافظت على روح الثورة) كما وصفها أحد قادة وفود المعارضة؟.