مَنْ يحاسب حيتان العراق؟

2022.12.20 | 06:21 دمشق

مظاهرة ضد الفساد في ساحة التحرير وسط بغداد (وكالات)
+A
حجم الخط
-A

دخل مصطلح الفساد إلى الميادين السياسية والاقتصادية والوظيفية العراقية بقوة بعد العام 2003، وصار لصيقا للغالبية العظمى من الاتفاقات السياسية والاقتصادية والأمنية.

وتغلغل الفساد في مفاصل الوزارات والمؤسسات المدنية والعسكرية، وأبسط أنواع الفساد جيوش الموظفين والعسكريين الوهميين (الفضائيين)، وهؤلاء تصرف لهم رواتب تامة من موازنات العراق، وتذهب تلك الملايين لجيوب الفاسدين العلنيين والسرّيين!

وهذه الحقائق يعرفها جميع ساسة العراق، وقد اعترفوا جميعا أن الفساد ينخر جسد الدولة، وأنه أكل أكثر من 350 مليار دولار، وما هُرّب منها خارج العراق أكثر من 150 مليار دولار، وهنالك من يتحدث عن أربعة أضعاف هذا المبلغ!

وهذه الحقائق تعرفها ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت التي أكدت بداية تشرين الأول 2022 أن "الفساد سمة أساسية في الاقتصاد السياسي بالعراق، وجزء من المعاملات اليومية".

ومؤامرة الفساد المتنوع جعلت العراق في مراتب مخجلة من التصنيف العالمي لمؤشرات مدركات الفساد منذ أكثر من عقد ونصف، وآخرها بالعام 2021 حيث احتل المرتبة 157 من بين 180 دولة، وهذه المرتبة ليست حقيقية وقد تكون هنالك مجاملات للعراق من منظمة الشفافية الدولية!

إن منظومة الفساد تضم شخصيات سياسية وعسكرية وتجارية مدعومة من أطراف مسلحة، ومَن يحاول المساس بهم إعلاميا أو قضائيا سيجد نفسه في عداد الأموات أو المفقودين أو المغيبين أو حتى المتهمين والمطاردين!

وحين نتابع ما ينفق على المصالح الشخصية والترفيه نجد أن الترف قد بدد موازنات العراق وبطرق قانونية، وبهذا ضاعت الأموال بين السرقات والتبذير في الإنفاق!

واقعيا نهبت أموال العراق بالعديد من الطرق القانونية وغير القانونية، ومنها على سبيل المثال: الفساد بمزاد العملية الأجنبية بالبنك المركزي العراقي، والتوظيف والتجنيد الوهمي، وتهريب العملات الصعبة بصفقات وهمية، وشراء العقارات والشركات الكبيرة داخل العراق وخارجه بالمال العام.

وأيضا بنهب أموال المشاريع الوهمية والتي يقال إنها أكثر من 1770 مشروعا، فضلا عن الرشاوى والإتاوات والنسب الثابتة في المقاولات، وتجارة السجون والمعتقلات، مرورا ببيع المناصب بين الكتل السياسية، وغيرها من صور الخراب والفساد المالي والإداري!

واقعيا نهبت أموال العراق بالعديد من الطرق القانونية وغير القانونية، ومنها على سبيل المثال: الفساد بمزاد العملية الأجنبية بالبنك المركزي العراقي، والتوظيف والتجنيد الوهمي

وقد لاحظنا خلال المرحلة الماضية فعاليات حكومية (إعلامية مزيفة) لمعالجة ظاهرة الفساد!

وأولى هذه الفعاليات كانت بإعلان عثمان الغانمي وزير الداخلية بحكومة مصطفى الكاظمي السابقة، وخلال أيامها الأخيرة، وبالتحديد في يوم 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2022 عن اعتقال التاجر (نور زهير جاسم) في مطار بغداد في أثناء محاولته المغادرة خارج البلاد بطائرة خاصة، وقال الغانمي إن "العراق أمانة في أعناقنا ولن نسمح بسرقة أمواله أو التهاون في أي شيء يمس أمنه".

وهذه الفعالية (القوية) في بدايتها انتهت بشكل هزيل ومخجل حيث أعلن رئيس الوزراء الجديد محمد شياع السوداني وبعد شهر تقريبا من اعتقال التاجر أن حكومته استطاعت، وخلال وقت قياسي، استعادة أكثر من 182 مليار دينار عراقي (نحو 124 مليون دولار) من أموال أمانات الضرائب المنهوبة التي تبلغ 2.5 مليار دولار، والتي سمتها (سرقة القرن)، وأن حكومته لن تستثني أي جهة متورطة بعملية سرقة الأمانات، وأن اللجان التحقيقية التي شكلتها الحكومة توصلت لنتيجة تفيد بصرف 114 صكا للمتهم "نور زهير" بمبلغ إجمالي أكثر من تريليون دينار (684 مليون دولار).

وكانت المرحلة المذهلة بإعلان السوداني أن القسم الأكبر من المبلغ لدى المحتجز نور زهير هو عقارات، وأن القاضي المختص أصدر أمرا بإطلاق سراحه بكفالة لبيع ممتلكاته وتسليم كامل المبلغ خلال أسبوعين!

وذكر مكتب الحكومة الإعلامي أنه تم استرداد الدفعة الثانية من تلك الأموال، بمبلغ قدره "مئة وأربعة وثلاثون ملياراً وأربعمئة وخمسة وخمسون مليوناً وستمئة ألف دينار".

وبعد انقضاء المدة القانونية التي أعلنها السوداني لم تتطرق الحكومة لقضية استرجاع الأموال وحتى الساعة لم يعتقل نور زهير وهنالك أنباء غير مؤكدة تشير بأنه تحت الإقامة الجبرية لحين نجاحه في استرداد المبالغ المطلوبة منه رغم انتهاء المهلة المطلوبة في الثاني عشر من كانون الأول/ ديسمبر الحالي!

فمَن يقف وراء نور زهير حتى يتم لملمة قضيته بهذا الشكل المكشوف والمعيب والمتناقض؟

إن قرار الحكومة بإطلاق سراح نور زهير ليس صائبا، وكان يفترض أن يتكفل القضاء بأمر بيع العقارات التابعة للمتهم، ولهذا قد نسمع بأي لحظة بمقتل نور زهير وقد يَهْرُب أو يُهْرَّب لخارج العراق من قبل العصابات المتورطة معه، وبالمحصلة ستنتهي واحدة من السرقات الكبرى!

ونقلت صحيفة المدى العراقية، يوم 11/12/2022، عن مصادر مطلعة أن عمليات سحب الأمانات الضريبة التي سميت بعد ذلك بـ (سرقة القرن) قد بدأت منذ عام 2015، وأن الأموال المسروقة نقلت بسيارات مصفحة إلى "منازل محورة لخزن النقود في حي الأميرات الراقي بمنطقة المنصور غربي بغداد".

وهنالك تسريبات تؤكد أن ما أعلن عنه من (سرقة القرن) لا يعدل 10 بالمئة من المبلغ الأصلي المسروق من أموال العراقيين، ثم كيف سميت بـ(سرقة القرن) وهي تشكل نسبة ضئيلة من حجم الأموال المنهوبة من موازنات العراق المعلنة؟

أما عملية الفساد الثانية والمعلنة فتتمثل بالحكم الذي أصدرته محكمة مكافحة الفساد العراقية، يوم 24/1/ 2021 بالسجن أربع سنوات للمتهم (بهاء عبد الهادي) مدير الشركة العالمية للبطاقة الذكية (كي كارد) وفرض غرامة قدرها عشرة ملايين دينار (7 آلاف دولار تقريباً) عن قضية إعطاء رشاوى للمتهم أحمد عبد الجليل رئيس هيئة التقاعد السابق، وذلك بعد أربعة أشهر من محاولته الهرب خارج العراق عبر مطار بغداد الدولي.

وبعد عام من الحبس (بسجن خمس نجوم) قالت هيئة النزاهة يوم 13/12/2022 إن محكمة جنايات مكافحة الفساد المركزية أصدرت حكماً جديدا وحضورياً بالحبس (سنة وتسعة أشهر) بحقِ المدانين مدير شركة (الكي كارد) ورئيس التقاعد سابقا بعد إعادة محاكمتهما!

وهذا يعني تخفيف الحكم من أربع سنوات لسنة وتسعة أشهر عن سرقة (13) مليار دينار عراقي، (الدولار يساوي 1500 دينار)!

فكيف أعيدت محاكمتهما، بينما الفقراء الذين يضطرون للسرقة تصدر بحقهم الأحكام الباتة والقاسية والقاصمة للظهر؟

وبهذا الخصوص أعلنت النائب حنان الفتلاوي رئيسة لجنة تقصي الحقائق النيابية، قبل أسبوع تقريبا، إكمال تقرير ملف سرقة الأمانات الضريبية وتسليمه لرئاسة البرلمان، وأن اللجنة استضافت (33) شخصية واستمعت لأقوالهم ودققت الأوليات معهم، ووضعت تقريرها المهم أمام أنظار الحكومة والقضاء، وقدمت عددا من التوصيات لمحاسبة المقصرين وإعادة المبالغ المسروقة!

إن ما ذكرناه يؤكد المزاجية القضائية، والتغلغل السياسي في تنفيذ الأحكام القضائية بحق صغار الفاسدين والسرّاق!

ولا ندري مَن سيحاسب حيتان الفساد إن كان التعامل الناعم يطبق مع صغار السرّاق؟

وهل هذه (النعومة القضائية) والخطوات الهزيلة كفيلة بإيقاف كارثة الفساد المالي في العراق؟

ثم مَن يملك القوة والجرأة على إيقاف هذه السرقات التي أكلت الأخضر واليابس من أموال أكثر من عشرة ملايين فقير في بلاد لا أحد يدري كيف تنفق أموالها الطائلة!

إن بناء الدولة لا يكون بالمجاملات مع السرّاق الذين نهبوا ثروات الوطن والناس، وإنما يكون البناء بالحزم والضرب بيد فولاذية لكل مَن يسرق قوت الشعب لأن السرّاق والإرهابيين وجهان لمؤامرة قاتلة وساحقة لقوت الناس وأمنهم وأرواحهم!

كلمات مفتاحية