من يكتب خطابات أسماء الأسد؟

2022.01.10 | 05:05 دمشق

315665-asma-alasd-wtlab-almdrst.jpg
+A
حجم الخط
-A

في مسرحية "بيت الدمية" التي كتبها المسرحي النرويجي "هنريك إبسن" في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تتمرد بطلة المسرحية "نورا" على نمط حياتها الأرستقراطية، حياة لا ينقصها شيء حتى الكماليات، حياة رفاهية وبذخ، ولكن ذلك كله لم يمنع نورا من اتخاذ قرار حاسم بهجرة بيت الزوجية، بعد أن اكتشفت أن زوجها لا يعاملها إلا على أنها دمية، دمية مدللة تحصل على كل ما تريد، شريطة أن تكون بلا رأي وبلا شخصية..

خرجت نورا من بيت زوجها في نهاية المسرحية وصفقت الباب خلفها بقوة، وقد وصف نقاد المسرح تلك الصفقة بأنها تاريخ جديد ونقلة نوعية أسهمت مساهمة فعالة في قضية حقوق المرأة، وتحديداً حقها في أن تكون ذاتاً مستقلة لها كيانها وشخصيتها، وليست مجرد كائن بيولوجي تابع..

التمرد المعاكس..

في هذا الإطار تبدو أسماء الأسد شخصية نقيضة لبطلة مسرحية بيت الدمية، حيث سعت بقدميها لدخول ذلك البيت والاستقرار فيه كدمية مؤذية، متوحشة، مزدوجة المشاعر، متصنعة العواطف، سعت بنفسها إلى طمس ملامحها الإنسانية، وسحق شخصيتها بنفسها لتكون عبدة من نوع خاص.

كانت أسماء الأخرس مواطنة بريطانية تتمتع بكل الحقوق التي تتيح لها حرية الرأي والتعبير والحركة، ولكنها -على عكس نورا بطلة مسرحية بيت الدمية- اختارت الخروج من هذا العالم وإغلاق الباب خلفها والعودة إلى الأسر، اختارت السجن الطوعي وهو سجن السلطة التي ورطت نفسها بها، ثم ما لبث أن تورط زوجها بدم شعبه، فلم تتردد في سكب الماء فوق بقع الدم والمساعدة في غسل آثار الجريمة وطمس ملامحها..

اختارت أسماء الأسد إذن أن تتمرد بشكل عكسي، فتمردت على الحرية التي كانت تمتلكها ودخلت برجليها إلى بيت الدمية الذي غادرته نورا منذ القرن التاسع عشر، ولكن البيت الذي عادت إليه أسماء هو بيت سلطوي متوحش، يقوم على منظومة قتل متكاملة وأخلاقيات الإجرام التام، بيت يتعارض مع رقة الأنثى وعواطفها وحقها في الحياة الطبيعية، لقد حولت نفسها إلى نوع خاص من الدمى، دمية لا تبحث عن ذاتها، وإنما تتخلى عنها وتختار طوعاً دخول عالم الجريمة ولعب دور الأنثى الملائكية لتجميل وجه العصابة..

سلطة اليقين..

في آخر إطلالاتها التي تتقاسم فيها الأدوار مع زوجها المتوحش، استقبلت أسماء الأسد المتفوقين من طلاب الإعدادية والثانوية والذين حصلوا على العلامات التامة في الشهادتين المذكورتين، وهنا كان لا بد من محاضرة تتشابه مع تلك المحاضرات التي يلقيها بشار الأسد على أتباعه، سواء كانوا جنوداً أو صناعيين أو سياسيين أو إعلاميين.. الخ، ومثل زوجها تماماً اتخذت السيدة الأولى مكان العارف بكل شيء، فهي من يقرر معنى التفوق العلمي، وهي من يحدد سماته وأهدافه، ومن يحاضر في معانيه، وهي وحدها من يمتلك اليقين استناداً إلى السلطة التي تمتلكها لا إلى قوة الحجة والبرهان..

لم تضف أسماء الأسد في محاضرتها أي معنى جديد أو قيمة مضافة، كان خطابها سفسطة من دون طحن، جعجعة لا تهدف إلا إلى تمرير فكرة واحدة وهي أن على المتفوق أن يدعم رئيسه، فالمتفوق الذي لا يسهم في ذلك الدعم لا قيمة له ولا لتفوقه، ربطت الأسد أو الأخرس معنى التفوق بالانتصار الذي حققه زوجها، وقد قالتها صراحة: "أنتم الجيل الذي تهيئه سوريا لينفض عنا غبار الحرب"، وكما عادة زوجها في نظرياته الفلسفية، طرحت السيدة الأولى نظرية جديدة فحواها أن من حقق العلامة التامة يعد من الأوائل، ولربما توقعت أن تدهش الحضور بذلك الطرح الجديد، ولكنها أضافت نظرية أخرى تقول: "العلامة التامة هي جزء من التمام"، فالتمام، -كما عرّفته-، هو "مفهوم أوسع وأشمل من العلامة التامة"، إنه باختصار تمام الولاء..

من يكتب خطابات أسماء؟

أرادت أسماء الأسد لمحاضرتها أن تبدو مرتجلة، ولكن الارتباك الذي صاحب ذلك الارتجال، وكذلك الأفكار المتذاكية التي تشابه حالة التذاكي التي نجدها في خطابات زوجها كشفا عن مرجعية واحدة، فمن الواضح أن من يكتب خطابات الأسد هو نفسه من يكتب خطابات أسماء، حيث نلمح ذات اللغة التي تعتمد على التشعب والسفسطة والتعالي والاستطالة والمداورة والمماحكة وخلط المفاهيم وضياع بوصلة الأفكار مع ضمان التصفيق الحاد في نهاية الخطاب بصرف النظر عن مضمونه، بحكم رعب الجمهور وخوفه من تبعات الامتناع عن التصفيق..

حرصت الأسد على تسخيف معنى التفوق إن لم يكن مستنداً إلى الإيمان بالوطن، وشيفرة الوطن هنا باتت معروفة للجميع، فأن تحب الوطن يعني أن تحب السيد الرئيس، وأن يكون ولاؤك للوطن يعني أيضاً أن يكون ولاؤك للسيد الرئيس، كيف لا والسيد الرئيس هو ليس الوطن فحسب، بل هو سيده..

تفوق الولاء..

ربما كان من المفارقة أن تطرح أسماء الأسد نظريتها عن التفوق في ظل واقع تعليمي أكثر من متدهور ولا يرقى إلى الأبجديات الأساسية للعملية التعليمية، فالمؤسسات التعليمية في سوريا باتت برمتها خاضعة لسلطة أجهزة الأمن، بدءاً من المناهج، مروراً بالواقع التعليمي ذاته، وانتهاء بالامتحانات، هل يستطيع مدرس في سوريا اليوم أن يرفض طلباً لتلميذ يعمل والده في الأمن حتى لو كان ذلك الطلب إعطاء العلامة التامة للتلميذ بصرف النظر عن علامته الحقيقية؟ هل يستطيع المسؤول عن الامتحانات أن يمتنع عن تسريب الأسئلة حينما تتدخل أية جهة سلطوية لطلبها؟..

التفوق الذي تريده أسماء الأسد هو تفوق الولاء، وهو يذكرنا بتفوق المظليين الذين منحهم حافظ الأسد في ثمانينيات القرن الماضي علامات إضافية مكافأة لهم على ولائهم، في ظاهرة لم يعرفها بلد آخر بما فيها أشد البلدان ديكتاتورية..

تبدو نظرة أسماء الأسد متعالية على المتفوقين، فلا تفوّق إلاّ بموافقة أمنية، والقصر الجمهوري وحده هو من يمهر ذلك التفوق بخاتمه وتوقيعه، بدليل أنها ركزت على "شهداء" البحوث العلمية، وهنا يتضح معنى خطابها وجوهره الأساسي وهو أن التفوق الحقيقي لا يمكن أن يتم إلاّ بالاستعداد التام للموت في سبيل الدفاع عن كرسي الرئيس..

من الواضح أن أسماء الأسد شديدة السعادة بمنصب السيدة الأولى، وتبدو مقتنعة أنها السيدة الأولى فعلاً، ولذلك فهي من يحدد كل شيء في حياة السوريين بالاشتراك مع السيد الأول، ففي نهاية خطابها تؤكد للمتفوقين رضاها ورضى زوجها عنهم وعن أهاليهم شريطة أن يعوا أنهم وأهاليهم ملك للسيد الرئيس، وأن على السوريين نساء ورجالاً، شيباً وشباباً أن يسعوا جاهدين لتحويل أنفسهم إلى دمى، وألا يفكروا ذات يوم في مغادرة البيت وإغلاق الباب وراءهم..

منذ أكثر من مئة وخمسين عاماً كان هنريك إبسن يدعو المرأة للتحرر والتمرد والانعتاق، ثم تأتي سيدة سوريا الأولى لتعيد جيلاً بأكمله مئة وخمسين عاماً إلى الوراء، إنها دعوة رسمية للتخلف والتبعية والاستسلام التام لمحرك الدمى، ويأتي هذا -ويا للمفارقة- في إطار الحديث عن التفوق وضرورة التفوق، في أغرب حالة انفصام يشهدها العصر..