من موريسكيي غرناطة إلى ثوار إدلب

2020.03.20 | 23:01 دمشق

2020-03-15t145727z_89796323_rc2ekf9r77n5_rtrmadp_3_syria-security-turkey-russia.jpg
+A
حجم الخط
-A

من يقرأ تاريخ الأندلس يوقن أن تاريخنا دائماً يعيد نفسه دائماً، بذات الصيغة المؤلمة.. ابتدأت قبل أيام برائعة رضوى عاشور " ثلاثية غرناطة" الرواية لا تأتي قيمتها من تقنيات السرد العالية فيها، ولا حتى من الحبكة الدرامية المحكمة بصبغتها التراجيدية، إنما من كونها وثيقة تاريخية لتعريف الأجيال على ما جرى في الأندلس.

أتْبعتُ هذه الرواية ذات فصول الألم الثلاثة برواية الموريسكي لحسن أوريد وهي توثق حياة أحمد شهاب الدين، وهو عالم أندلسي، فرَّ من محاكم التفتيش إلى المغرب، كُتبت باللغة الفرنسية، وتمت ترجمتها لاحقاً للعربية.

الكتاب الثالث هو كتاب "تاريخ الموريسكيين حياة ومأساة أقلية" تاريخي يوثق بالأرقام لكثير من جوانب حياة الموريسكيين ومأساتهم لمؤرخَيْن الأول إسباني أنطونيو دومينيغيث أورتيث والثاني فرنسي برنارد فانسون.

بعد اتفاقية تسليم مدينة غرناطة التي وقعها عام 1491 إثر حصار تعرضت له على يد ملك أراغون فرناندو وزوجته ملكة قشتالة اليزابيث، زواج بين الملك والملكة توحدت على إثره المملكتان الواقعتان شمال إسبانيا، بعد أن كانتا متقاتلتين.

كالعادة.. لم يلتزم القشتاليون ببنود معاهدة التسليم، التي تنص على حرية العقيدة، وبدؤوا شيئاً فشيئاً يضيقون الحصار على الغرناطيين، فمنعوا مظاهر الحياة الإسلامية من الحمامات إلى الحناء، وحظروا تداول الأسماء العربية، وحرقوا الكتب الإسلامية، وليس انتهاءً بمحاكم التفتيش التي كانت على الشك تعدم الناس حرقاً. على إثر هذا فرَّ كثير من الموريسكيين إلى شمال أفريقيا.. وكلمة موريسكي تعني باللغة الإسبانية سكان شمال أفريقيا.

الأندلسيون لم يرغبوا أن يتركوا بلدهم فهم سكانه منذ مئات السنين، ولربما كان الكثير منهم من السكان الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام، لذلك فضلوا أن يعتنقوا المسيحية، وإن تقية، على أن يتركوا بلدهم. واستطاع الكثيرون منهم أن ينفذوا من محاكم التفتيش، ولكن التضييق والاضطهاد الشديد أدى لقيام عدة ثورات كان أبرزها ثورة جبال البشرات التي استمرت ثلاث سنوات من عام 1568 حتى عام 1571، وانتهت بالفشل. هذه الثورة تناوب على قيادتها ثلاثة زعماء، كلهم ماتوا اغتيالاً على أيدي بعضهم!

وهنا تعرض الموريسكيون لمزيد من التقتيل والاضطهاد، حيث قتل عشرات الآلاف من المدنيين في المدن والقرى التي دخلها الجيش القشتالي

وهنا تعرض الموريسكيون لمزيد من التقتيل والاضطهاد، حيث قتل عشرات الآلاف من المدنيين في المدن والقرى التي دخلها الجيش القشتالي، فضلاً عن محاكم التفتيش التي اشتد أوار نارها وباتت تفتك أكثر بالناس، حتى إن رجال الدين الكاثوليك الذين كانوا في مناطق الموريسكيين كانوا أغنياء جداً نتيجة ابتزاز الأهالي وأخذ أموالهم كرشاوى مقابل التغاضي عن إيمانهم غير الحقيقي، كما يقول دومينيغيث في كتابه الذي ذكرناه سابقاً.

ورغم أن التنصير قد فرض على الأهالي، منذ عدة أجيال إلا أن ملك إسبانيا فيليبي الثالث لم يهنأ له بال حتى هجر كل الموريسكيين الذين كانوا يعيشون في مناطق منفصلة، ولم يتم ذوبانهم واندماجهم بشكل كلي في المجتمع الإسباني الجديد، وقال دومينيغيث في كتابه إن عددهم يصل إلى خمسمئة ألف شخص، تم تحميلهم في البواخر وتوصيلهم إلى بلدان شمال أفريقيا. لم يُستثن من ذلك إلا الذين حصلوا على شهادات حسن إيمان من القساوسة الكاثوليك.

تقول المصادر إن الملك الإسباني فيليب الثالث لم يجرأ على عملية التغيير الديمغرافي هذه إلا عام 1610، أي بعد نحو مئة وعشرين سنة على سقوط غرناطة، عندما رأى أن ملك المغرب حينها يتصارع مع أخيه على الحكم، وبعد أن أمن من خطر الدولة العثمانية، بعد اتجاهها لتأديب الصفويين، ووأد الثورات التي كانت تندلع بين الحين والآخر في البلقان.

عانى الموريسكيون الأمرين سواء في إسبانيا، حيث كان ينظر إليهم نظرة دونية، حتى بعد اعتناقهم المسيحية، وبعد تهجيرهم صار ينظر إليهم في بلدان شمال أفريقيا على أنهم مسيحيون بشكل أو بآخر، حيث أدت عمليات محاكم التفتيش المشددة إلى ضياع الهوية الحقيقية لهؤلاء القوم، حتى صاروا بمنزلة بين منزلتين، فلا هم مسلمون ولا هم مسيحيون.

بالعودة إلى التاريخ الذي يعيد نفسه.. فاتفاقية مناطق خفض التصعيد التي وُقعت في أستانا عام 2017، لم يلتزم بها الروس وتابِعُهم النظام، وكانت هذه الاتفاقية الوسيلة الناجعة لقضم الأراضي التي كان يسيطر عليها الثوار تدريجياً، وصولاً إلى اتفاقية سوتشي التي سيسيطر النظام والروس بمقتضاها على الطرق الدولية، وحتى هذه لم يلتزم بها النظام وخرقها بمساعدة الروس في الحملة الأخيرة، التي توعد فيها أردوغان بأنه سيعيد النظام إلى حدود اتفاقية سوتشي، ولكنه لم يفعل، ليس لأنه لا يريد، وإنما لأنه حسبها على ميزان الربح والخسارة، فوجد أن حسابات الحقل لم توافق حسابات البيدر.

كان الموريسكيون ينتظرون بفارغ الصبر أن يأتي العثمانيون الأتراك الذين كانوا حينها أقوى إمبراطورية على وجه الأرض، أن يأتوا لنجدتهم، وبالفعل شارك مئات الأتراك في الثورة التي اندلعت في جبال البشرات، ولكن هذا لم يكن كافياً لمواجهة الجيش الإسباني الذي يمثل دولة فتية سيطرت على أغلب أمريكا الجنوبية وعدة بلدان في جنوب شرق آسيا.

لم ترسل الدولة العثمانية التي كانت مشغولة بمحاسبة الدولة الصفوية جيوشاً لنصرة الموريسكيين، ولكني لا أدري إن كان السلطان سليمان القانوني ومَن خَلَفَه صرَّحَ بأنه لن يترك إخوانه ولن يسمح بحماة ثانية!

كلمات مفتاحية