منحة الأسد.. حبة سيتامول لمرضى السرطان

2022.12.18 | 06:03 دمشق

منحة الأسد.. حبة سيتامول لمرضى السرطان
+A
حجم الخط
-A

تتصدر المنحة المالية التي قرر بشار الأسد صرفها للسوريين الخبر الأول في وسائل إعلام النظام، برامج حوارية تناقش أهميتها وتوقيتها وانتظار الناس لها ودورها في إنعاش السوريين، أخبار ومقالات في الصحف تحلل فلسفة المنحة وكرم مانحها وحرصه على تحسين أوضاع السوريين وإحساسه بمعاناتهم، ريبورتاجات ولقاءات مع المواطنين لإجبارهم على التعبير عن سرورهم وامتنانهم والإقرار بفضل السيد الرئيس وشكره على تلك المكرمة.

على الجانب الآخر، أثار مرسوم المنحة سخرية المعارضين وانتقاداتهم التي صبت جام غضبها على المبلغ الضئيل الذي لا يلبي شيئاً من احتياجات المواطن في الظروف الاقتصادية الخانقة التي يمر بها، فما الدور الذي ستلعبه تلك المنحة في تحسين الأوضاع المعيشية وأي حل ستشكله لمعاناتهم الصعبة ومشكلاتهم المالية المعقدة بل لمأساتهم التي لا يكفي أضعاف ذلك المبلغ الذي تفضل الرئيس بمنحه لمواطنيه لحل جزء بسيط منها، حيث لا يزيد مبلغ المنحة عن مئة ألف ليرة سورية؟

إن فكرة المنحة بحد ذاتها هي سبب كاف للثورة على أي نظام يضع نفسه في موقع المانح، فهي تؤكد على فردية القرار ومستوى الديكتاتورية والتأله

ذات المديح من قبل إعلام النظام، وذات الانتقادات من معارضيه تتكرر عند كل منحة يقرر الرئيس أن يصرفها لمواطنيه، غير أن السجالات حول المبلغ الضئيل، ومحاولة استرضاء المواطنين، أو حتى السخرية من كرم الرئيس ومن فكرة صرف المنحة وكأنها من جيبه الخاص، كل ذلك يبدو أبعد ما يكون عن جوهر المشكلة.

إن فكرة المنحة بحد ذاتها هي سبب كاف للثورة على أي نظام يضع نفسه في موقع المانح، فهي تؤكد على فردية القرار ومستوى الديكتاتورية والتأله، والنظر إلى المواطنين على أنهم مجرد عبيد تتحكم بهم السلطة العليا، تتحكم في قراراتهم وتفاصيل حياتهم وفي قوتهم اليومي.

مؤخراً، اجتاحت أوروبا موجة غلاء بعد الحرب الروسية على أوكرانيا وما نتج عنها من ارتفاع أسعار الطاقة، فقررت الحكومات الأوروبية صرف تعويضات للمواطنين تغطي الفارق الكبير بين الأسعار والدخول، ولكن تلك المبالغ لم تصرف للمواطن الأوروبي على أنها منحة، بل استحقاق وواجب من الحكومة تجاه مواطنيها، كما أن مبالغ تلك المساعدات استطاعت أن تردم الهوة نسبياً وأن تغطي عجز دخل المواطن الأوروبي عن تسديد فواتير الطاقة، والأهم أن قرار التعويضات التي صرفتها الحكومات الأوروبية لم ينسب لشخص بل للدولة.

من هنا يمكننا تناول "المنحة" كفكرة وآلية، فهي أولاً تنفي صفة الدولة وتختزلها في شخص، وهي ثانياً تنفي صفة المواطن والمواطنة أيضاً، فمن يقرر المنحة هو السيد، ومن يأخذها هو العبد، وهكذا تعيدنا تقنية المنحة إلى العصر الإقطاعي في أسوأ صوره وأشكاله، وهو العصر الذي ادعى النظام طيلة سنوات حكمه أنه يحاربه ويعاديه، ولكنه هنا يمارس شكلاً بهيمياً من الفكر الإقطاعي، حيث يعامل النظام المواطن على أنه أدنى من درجة العبيد بكثير ويعيد إلى ذاكرتنا وصف الأسد للشعب السوري على أنه مجموعة من الحشرات والجراثيم، وبالتالي فهو يتفضل على تلك الجراثيم بمنحهم فتات الفتات.

ورغم كل ما يعنيه مبلغ المنحة المخجل، إلا أنه لا يلعب دوراً هاماً بالمقارنة مع فكرة المنحة، فمن ناحية، لا يحق للرئيس صرف مبالغ من خزينة الدولة للمواطنين والادعاء أنها منحة منه، ومن ناحية ثانية، فإن المنحة ستبقى فعلاً معادياً لمفهوم الوطنية وفق الآلية الذهنية والأخلاقية التي تنتج عنها والتي تجعل من شخص الرئيس أهم من الوطن والمواطن معاً، حتى لو مبلغ كان المنحة قادراً على تحقيق كل احتياجات المواطن.

تكفي فكرة المنحة بالطريقة التي يروج لها النظام لتنسف كل روايته التي سعى لترويجها منذ سنوات عن السيادة والدولة والمؤسسات، فهي تؤكد على نهجه الشمولي وقمعه وديكتاتوريته التي كانت أحد الأسباب الرئيسية للثورة عليه، ودليلاً على فكر العصابة الذي يقود من خلاله مناطق نفوذه، كما أنها تنفي أية نية للنظام في الإصلاح أو التغيير أو في تقديم أي تنازل للشعب، بل هي (المنحة) نوع من الخطاب الذي لا يمكن تفسيره إلا على أنه تأكيد من العصابة على نظرتها الدونية للشعب، وتأكيد للعلاقة الفوقية مع المواطنين بمن فيهم الموالون والحاضنة.

لا يمكن لمنحة الأسد أن تكون نوعاً من الحرص على المواطن وقوته اليومي، ولا حتى بهدف استرضائه أو إعطائه أملاً مزيفاً، فذلك كله لا يعده النظام موضوعاً يستحق التفكير فيه، وإنما يريدها النظام نوعاً من الدعاية يؤكد من خلالها على أنه لا يزال كما كان، لم تهدده الأحداث، ولم تؤثر فيه الظروف التي يمر بها وأنه لا يزال كسابق عهده مهيمناً ومسيطراً، والرسالة الأهم هي تأكيده بأنه لن يتغير في المستقبل سواء في طريقة حكمه أو في نظرته للمواطن، وليس لديه أية نوايا لذلك..

تؤكد المنحة من زاوية أخرى ليس فقط على مدى إصرار النظام على إهانة السوريين القابعين تحت سيطرته، بمن فيهم أتباعه، من خلال المبلغ الزهيد الذي لا يقدم ولا يؤخر، وإنما على تحدي الشعب وتذكيره بعجزه وخنوعه، وهو الأمر الذي يُطرب النظام خاصة بعد إيمانه بالنصر المبين الذي حققه على السوريين، ولو كان للشعب أهمية ما، لخجل النظام من صرف هذا المبلغ، فالمغتربون الذين يساعدون أقرباءهم أو معارفهم أو حتى أولئك الذين يقدمون مساعدات شهرية أو شبه شهرية لمن لا يعرفونهم، يخجلون أن يقدموا مساعدة لا تتجاوز قيمتها الـ ١٦ دولاراً، بينما لا يخجل الرئيس الذي يتحكم بالمليارات التي يجنيها من تجارة المخدرات أن يقدم ذلك المبلغ لمرة واحدة ويعده فضلاً ومنة ويطلب من المواطن شكره والتعبير عن امتنانه على وسائل الإعلام.

يبدو أن بشار الأسد لم يتأخر في الاستجابة للرسالة المؤثرة التي وجهها له الممثل وضاح حلوم منذ أيام وناشده فيها التدخل لحل مشكلات السوريين وإنقاذهم مما هم فيه كونه الوحيد القادر على ذلك.

الأسد يستطيع أن ينقذ سوريا فقط إذا قرر الرحيل، وهو الحل الوحيد الذي يمتلكه الرئيس للإفراج عن شعب كامل معتقل في السجن الكبير الذي يديره

ولهذا فكر الأسد مباشرة بحل إسعافي وعكف على دراسة مرسوم طوارئ، بعدما نما إلى سمعه -عن طريق رسالة الممثل المذكور- أن شعبه يعاني من الجوع والبرد ونقص كل المواد الأساسية اللازمة للحدود الدنيا للحياة، ووصل إلى حل مثالي يمكنه من اقتلاع مشكلات السوريين من جذورها، وأصدر على وجه السرعة مرسوم المنحة المالية ليعوض السوريين من خلالها عن أيام العوز والجوع وينهي مشكلاتهم بالكامل ويجعلهم يعيشون في بحبوحة.

من الواضح أن بشار الأسد فهم توسلات الممثل وضاح حلوم بشكل خاطئ، لأن المعنى البعيد للرسالة، والذي ربما لم يقصده الممثل، هو أن الأسد يستطيع أن ينقذ سوريا فقط إذا قرر الرحيل، وهو الحل الوحيد الذي يمتلكه الرئيس للإفراج عن شعب كامل معتقل في السجن الكبير الذي يديره، وبالتأكيد لم يتوسل الممثل المعروف من أجل ستة عشر دولاراً، غير أن الأسد لم يجد أكثر من ذلك المبلغ ليرد من خلاله على توسلات السوريين، فكان كمن يصرف حبة سيتامول لمريض السرطان ثم ينتظر منه الاعتراف بالجميل.