ملاحظات على آداب السلوك عند الفرنسيين

2023.05.04 | 06:24 دمشق

ملاحظات على آداب السلوك عند الفرنسيين
+A
حجم الخط
-A

سوف يبقى ابني مراد ذو السبع سنين يذكر باريس على أنها المكان الأول في حياته الذي يرى فيه رجلاً يتبوّل واقفاً أمام الناس وسط الطريق. لم يصدم المنظر مراد وحده، بل صدم أباه أيضاً إذ طالما ظننتُ أن الفرنسيين اخترعوا كلمة إتيكيت (أي السلوك الراقي) لكي يعبّروا عن حالة قائمة عندهم، لكن ظني خاب أيّما خيبة ولم أجد من ذلك السلوك المُتخيَّل إلا كِسَراً وبقايا.
فقد لفت نظري، على سبيل المثال، أنّ هناك نسبةً كبيرة من الرجال والنساء الذين يقضمون أظافرهم بأسنانهم بحضور الآخرين ذاهلين تماماً عمّن حولهم. وهذه الظاهرة منتشرة في المجتمع لدرجةٍ لا يشك فيها المراقب في أنها تعبر عن مرض نفسي جماعي قائم ويحتاج إلى معالجةٍ وتدخل من قبل المسؤولين، هذا إذا كانت هذه الظاهرة تزعج المسؤولين أصلاً، فهي إن دلّت على شيء فهي إنما تدل في رأيي على الهزيمة النفسية عند شريحةٍ واسعة من شعبٍ طالما اشتهر بالتمرّد والثورات. ولعلّها تعبّر اليوم عن حالة عجز المواطن العادي أمام سطوة البنوك وتحكم الشركات العملاقة، وتعكس أعراض الإدمان على التلقي السلبي لمحتوى وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وألعاب الموبايل التي تنتشر بكثرة بين الكبار والصغار.

هذه النعمة مفقودة عند كثيرٍ من الفرنسيين الذين يضيّعون جمال لغتهم بحركات لا إرادية كتكرار المقاطع الصوتية، أو النفخ بين عبارةٍ وأخرى، أو مطّ حروف العلّة، أو حتى الرجفة في أثناء الكلام

وفي البلد الذي ولدت فيه الروح الفردية وحرية الضمير تنتشر ظاهرة التأتأة في أثناء الكلام بطريقةٍ لا يمكن إلا أن تعبّر عن ترددٍ ووهن وضعف ثقة فادح. ومع أن اللغة الفرنسية برقتها أشبه بأغنية طويلة عندما نسترسل بالكلام بها، إلا أن هذه النعمة مفقودة عند كثيرٍ من الفرنسيين الذين يضيّعون جمال لغتهم بحركات لا إرادية كتكرار المقاطع الصوتية، أو النفخ بين عبارةٍ وأخرى، أو مطّ حروف العلّة، أو حتى الرجفة في أثناء الكلام.
من جانبٍ آخر، يتوجب على من يسير في باريس ومعظم المدن الفرنسية أن يُبقى عيناً كعين الصقر حيث موضع قدمه لا لكي "نخفّف الوطء" كما نصحنا أبو العلاء المعرّي ما دام "أديم الأرض .. من هذه الأجساد،" بل لتفادي التعثّر بروث كلب، أو بول إنسان. لا زلت أذكر جيداً ذلك اليوم الذي مررت فيه بجانب متجر سيفورا الشهير للعطور وقلت بيني وبين نفسي ها أنا أوشك على أن أشتمّ العطور الفرنسية الباهظة مجاناً، ولكنّي لم أصدّق أنفي عندما تسللت إليه رائحة بولٍ كريهة لم أدر أبول كلب هو أم بول إنسان.
ومن الملاحظات الأخرى التي تزهّدني بكثيرٍ من ناس هذه البلاد الملابس الرثّة والشعور الشعثاء، عند كثيرٍ من الرجال والنساء، بنسبةٍ أكبر بكثير مما نراه في بلدانٍ أخرى. ويزداد غيظي من هؤلاء عندما أزور مدارس أولادي لأجد المعلّم (أو المعلّمة) من هذا الطراز البائس. ويغيظني من كثيرٍ من الفرنسيين فقدانهم للإحساس بالخجل عند التمخّط بصوتٍ عالٍ في حضور الآخرين، أو البصاق بوقاحة في دروب المارّة، أو الخروج من الحمّام دون غسيل اليدين. وهذه سلوكيات لاحظتها ليس فقط عند طبقة العوام وقليلي الحظّ من الثقافة، بل حتى عند صحفيين وكتّاب وأشخاصٍ قالوا لي إنهم من أصولٍ بورجوازية. وبالأمس شاهدنا الصينيين يوجهون للرئيس الفرنسي ماكرون ملاحظة سلوكية في أثناء زيارته الأخيرة للصين عندما وضع يده في جيبه أمام الكاميرات بحضور الرئيس الصيني. ولو أتى الصينيون إلى هنا لشكروا الرئيس ماكرون على أناقته وذائقته المفرطة مقارنةً بالغالبية الساحقة من أفراد شعبه.
وكنت طالما اتهمت نفسي وقلت لا بد أن طارئاً طرأ في السنين الأخيرة جعل فرنسا كذلك وأن هناك تدهوراً حديثاً يفتك بالذائقة العامة عند الفرنسيين هذه الأيام بسبب اللاجئين مثلاً، أو كثرة الغرباء من عربٍ وسيّاح أجانب، فباريس تبقى باريس وفرنسا هي فرنسا التي عرفناها في الكتب والتلفاز ولن ينال من أناقتها انطباعاتٌ متعجّلة من قبلي تفتقد للإنصاف والخبرة.

لا شك أن فرنسا لا يمكن اختزالها في حفنةٍ من الملاحظات على آداب السلوك عند البعض. فالفرنسيون دمثاء الطبع، أذكياء، متحررون فكرياً، مرحون يحبّون الحياة ومتسامحون مع الغرباء

لكني ما لبثت وأنا أقرأ في التاريخ الفرنسي أن مررت على تفاصيل مثيرة تدعم انطباعاتي. فقد وجدت أن مونتين مؤسس فن المقالة الحديث في القرن السادس عشر كان يأكل بنهم ويقضم أصابع يديه في أثناء الطعام. وأما الملك الذي كان على زمانه (هنري الرابع) فقد قال عنه مرافقوه بأنه لا يستحم أبداً وأن له رائحة كريهة كرائحة الجيفة. كما عثرت عند ويل ديورانت في كتاب (قصة الحضارة) على وصفٍ مثيرٍ لفرنسا إبان بداية عصور عظمتها في القرن السابع عشر حيث ينقل المؤلف أن فرنسا كانت تتقدم في كلّ شيء إلا آداب السلوك، فقد "كان الرجال يبصقون على أرض الحجر ويبولون على سلّم (متحف) اللوفر،" وهذه بالضبط مآخذي على الفرنسيين بعد أربعمئة عام تقريباً، فالموضوع إذاً مزاج شعبٍ، وليس مجرد ملاحظات متعجّلة من قبلي.
لا شك أن فرنسا لا يمكن اختزالها في حفنةٍ من الملاحظات على آداب السلوك عند البعض. فالفرنسيون دمثاء الطبع، أذكياء، متحررون فكرياً، مرحون يحبّون الحياة ومتسامحون مع الغرباء. وهم إلى ذلك فخورون ببلدهم ولغتهم وثقافتهم وتطورهم العلمي والتقني ومكانة بلادهم السياسية والعسكرية في العالم.
لكن كل ذلك ماذا يفيد إذا كان الإنسان خُلقه واهن، وسلوكه متردٍّ، ونفسيّته مهزومة؟