ملائكة وشياطين سوريا الخاوية..

2019.11.06 | 17:53 دمشق

20.jpg
+A
حجم الخط
-A

تحكي رواية (المعلم ومرغريتا) للروائي الروسي ميخائيل بولغاكوف عن زيارة الشيطان لمدينة موسكو في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث يقودنا الكاتب في سياق مرور الزائر الغريب على مضيفيه، إلى تخيل واقع قاتم يعيشه الروس الذين تحكمهم بيروقراطية الحزب الشيوعي السوفييتي، فعندما يصبح الولاء للحزب ولشعاراته الدوغمائية وقادته الجلفاء، تنتعش بيئة الشيطان وتزدهر أعماله، وتصبح أهدافه سهلة ومتاحة.

فهنا سترى الجماهير التي حرمت من حريتها، كيف أن الشيطان المتمكن والقادر على إغواء المسؤولين ضعاف النفوس، يزيد عليها المشاق حين يُفسد الجميع، ولكنه يسهل بعض التفاصيل من جهة أخرى في حياتها المُدَمرة، حيث تصبح الطبقة الحاكمة مفضوحة أمام العيون، بدلاً من أن يبقى أركانها مستترين بالشعارات يزاودون بها على عامة الناس!

ولنا أن نتخيل في أمكنة أخرى من العالم، حيث تجري وقائع مشابهة في مجتمعات محكومة بالقمع، أن الجمهور المرغم على تنفيذ إرادات من يحكمه يتوقع أن يكون الزائر من طبيعة مقابلة للشيطان، أو مواجهة له في حال أردنا أن نرى الأمور من جهة الأفعال وليس البنى والتكوين، ومن لدينا في مخزوننا الديني والفكري يمكن له أن يواجه إبليس سوى الملائكة؟!

المؤسف في أمنيات السوريين وكذلك المشرقيين عموماً من المؤمنين بالديانات السماوية الثلاث أن كل الملائكة الذين ورد ذكرهم في الكتب المقدسة كانت لديهم وظيفة محددة لا يستطيعون أن يعملوا في غيرها! بينما يمكن للشيطان أن يكون متعدد الوظائف والأفعال، ولهذا تراه يدخل ويخرج ويفعل ما يريد، فلا يجد الإنسان من يعينه في مواجهته سوى أن يتحلى بالإيمان وأن يخوض التجربة!

هكذا عاش السوريون وكذلك شعوب الشرق الثائرة في مواجهة الشيطان الذي يمكن لنا وبكثير من الدراية بأساليب الأنظمة في إفساد البشر، أن نرى تجليه -أدبياً على الأقل- في صورة القادة الديكتاتوريين الذين حكموا المنطقة طيلة عشرات السنين، فصارت الناس تتمنى لو تحكمها "القرود السود" بدلاً من هؤلاء الذين زادوا في تخلف البلاد وأمعنوا في سرقة مواردها والارتهان إلى أعدائها. وحين قامت الثورات الأولى

يمكن لنا فعلياً إسقاط ثنائية الملائكة والشياطين على حياتنا اليومية ونحن نواجه إرث الديكتاتوريات الهمجية التي حكمت بلادنا

في الربيع العربي، وإزاء الماضي المعتم، صارت أمنيات الجماهير الثائرة عالية السقف، وهذا حقها طبعاً، ولكنها صعّبت على نفسها الطريق حين أرادت أن يكون حكامها الجدد، من نسل الملائكة، لعلهم يواجهون الشيطان المتغلغل في حياتها!

ولكن أين سنعثر على قادة من صلب الملائكة؟ وكيف يمكننا أن نبحث عنهم ونحن نعرف أن الملائكة لا يتزاوجون؟!

ألا نقدم حين نمضي في هذا الطريق مساعدة مجانية ملهمة لشيطان الثورات المضادة المتربص بنا وبحيواتنا، ليقول أنه لابديل عنه!؟

يمكن لنا فعلياً إسقاط ثنائية الملائكة والشياطين على حياتنا اليومية ونحن نواجه إرث الديكتاتوريات الهمجية التي حكمت بلادنا، ولكننا نرتفع عن الأرض، ونعلو كثيراً في أمنياتنا، ولا بد أن يكون اصطدامنا بأرض الواقع قاسياً ومدمراً، حين نكتشف حاجة تجربتنا للكثير من الوعي والنقد لكي تنضج وتصبح لائقة بالتضحيات التي قدمها الثائرون على الأنظمة في سبيل الحرية والعدالة والكرامة! رغم أن المعادلة المنطقية تقول بأن الحياة المدنية المعاصرة لا تحتاج ملائكة ولا يجب أن تحتاج شياطيناً، بل تحتاج قانوناً مدنياً حضارياً تستوي تحته كل قوى المجتمع، وأن الأهم هو قدرتنا على محاسبة الحاكم أياً كانت طبيعته.

تكررت مواجهاتنا مع الواقع بين شياطينه وملائكته في التجارب التي عاشتها الثورة السورية، فكل هيئة أو تنظيم أو تجمع نشأ في إطار الحراك السوري اليومي، كان ينقسم وفقاً لحاجات السوريين "الرعناء" إلى هذه الثنائية، ولعل مراجعة النهج الأخلاقي الذي فرز الأسماء التي ظهرت طيلة الفترة السابقة توضح كيف أن الافتراض القائم يبدأ أولاً بكون الجميع عرضة للإفساد، فهم كلهم متخلخلون أخلاقياً! وهم في النتيجة عملاء لرغباتهم الرخيصة! وتكسبهم على حساب دماء الشهداء! إنهم سياسيون سفلة لا يمتلكون أي ملاءة تجعلهم على مستوى الثورة الطاهرة! إنهم ببساطة شياطين!

المنطق يقول إننا نحتاج لمحاكمة وتقييم عدة تجارب: مثل المجلس الوطني، والائتلاف، مروراً بلجان التنسيق المحلية، واتحاد التنسيقيات، وغيرها، ولكن الواقع الذي تم فرضه على السوريين ولاسيما على مواقع التواصل الاجتماعي هو أننا غرقنا في محاكمة الأفراد، وأنشأنا محاكمنا الثورية دون إفساح المجال لأي متهم أن يعرف تهمته فعلياً وأن يقوم بالدفاع عن نفسه، فبتنا عرضة للاستنزاف ليس على المستوى الفردي الذي يفقدنا الثقة بالأشخاص، بل على المستوى العام الذي جعل الثورة التي يمثلها الثوريون ثورة مفسدة! لا تملك معيارية أخلاقية! وبدلاً من أن يتم تكريس وجوهها المميزة التي طالما كانت تحتوي طاقات كبيرة على المستوى العلمي والثقافي والحقوقي والفكري، صارت ثورة أبو صقار وأبو عمشة وغيرهما من الأسماء!

تدمير النموذج الإنساني، القابل للمساءلة وللمحاكمة وإصلاح المسار وطرده من الفعالية الثورية المستمرة طيلة ما يقارب عقداً من السنين، وإحلال الأنموذج الشيطاني بدلاً عنه، والسعي الدائم إلى إحلال نموذج آخر إفتراضي لسياسيين وقادة طاهرين معقمين من الأخطاء ينتمون لنسل الملائكة!

كل هذا كان يكرس ومن حيث يدري أصحاب هذا النهج أو لا يدرون خطة النظام الجهنمية التي تقوم على تدمير الحراك المضاد له من مقوماته من داخله، وبدلاً من أن يجهد نفسه في مواجهة القوام الأخلاقي الأصيل للثورة عبر تصفية وجوهها المعروفة والبارزة، ترك الأمر لجمهور الثورة ذاته، بعد أن زرع بينهم عشرات آلاف الحسابات المزيفة على شبكات التواصل الاجتماعي، كانت تختلق بدورها تاريخاً مشيناً لكل شخص مستهدف، يجعله عرضة للنهش ولوك الألسنة، وصولاً إلى إعدامه معنوياً..!

تتكرر ذات الآلية هذه الأيام مع انعقاد جلسات اللجنة الدستورية، التي قيل في تكوينها وسيرورة بنائها، والدور الدولي والإقليمي في مرجعياتها، الكثير من النقد، بعضه كان محقاً في رؤيته، وبعضه الآخر كان متهافتاً يعيد سيرة البحث عن الملائكة في أسماء ثلث المعارضة أو ثلث المجتمع المدني، فلا يجد بينهم من يستحق أن يمنحه وسام الأهلية الثورية، فهؤلاء الذين ارتضوا أن يشاركوا في مسار اللجنة الدستورية وبحسب جمهور كبير على السوشال ميديا، ووفقاً لوجهات نظر عدد كبير من النخب ليسوا سوى أقزام، وهم بالمعنى الأخلاقي شياطين ملوثون بالخيانة!

يلتقي هؤلاء مع رؤية النظام التي تشكك بكل المسار الدولي للحل في سوريا، والتي ترفض

ربما يحتاج كثير من السوريين لأن يراجعوا سياق بحثهم عن الملائكة، ففي معركتهم مع شيطان النظام، حولوا كل من حولهم إلى شياطين

فكرة اللجنة الدستورية وتصر على أن المشكلة هي مؤامرة لإرهابيين مدعومين من الخارج، وليست مشكلة دستور، فالنظام لديه دستور 2012، وقد عبر بشار الأسد عن هذه الرؤية قبل أيام في لقائه مع الفضائية والقناة الإخبارية، حيث قام بتقزيم الثلث المحسوب عليه بحسب الآلية المقررة من الأمم المتحدة ليصبح مجرد وفد مدعوم من النظام ولا يمثله!

ربما يحتاج كثير من السوريين لأن يراجعوا سياق بحثهم عن الملائكة، ففي معركتهم مع شيطان النظام، حولوا كل من حولهم إلى شياطين، وصار مشهد جبهتهم خاوياً يشبه مشهد جبهة النظام وداعميه، الذين يتبجحون في المحافل الدولية قائلين: الجميع هنا مجرمون، وشياطين، ولا ضرورة لأن تستنفروا لإيقاف المذبحة!