icon
التغطية الحية

مفهوم الفقد في رواية "الهجران" للكاتب السوري سومر شحادة

2021.10.29 | 14:32 دمشق

alhjran-_tlfzywn_swrya.png
فضاء ساحلي
+A
حجم الخط
-A

"أفكر أنه إذا ما أردت نزع ضمير أحد، أزرع في رأسه فكرة الواجب"ص8. ھل يبرر لنا ذلك فعل القتل وقرار إنهاء حياة إنسان ما؟ وهل يشير هذا المبدأ لتوضيح صورة الواقع في مواجهة الحرب والفقدان الذي يعصف بكل مكان خصوصاً في السجون والمعتقلات التعسفية؟

كم من الهجران يستفز حياتنا ويستنزف أعصابنا ويبلبل أفكارنا.. كم من الخسارات تمضي بنا ومعنا جنباً إلى جنب وکأنها تقول لنا: أنتم لا شيء في النهاية بدوني! مجرد أرقام وفقط. كم من الكتابات الموجعة التي أفرزتها الحرب في سوريا والتي أثرت على مناخ وذهنية كتابها وأدباٸها وترکت ندوباً لا تمحى على صفحاتهم ستدوم سنوات وسنوات ولأجيال متلاحقة؟

الهجران في رواية الکاتب سومر شحادة، تبدأ برحلة الفقد الأولى للأب الذي اغتيل في السجن ومن هنا تتابع مسيرة التراجيديا للأحداث في الرواية عبر سرد مفعم بالهم الخاص والعام، وهذه ميزة الانتقال من نقص نعانيه کأفراد إلی نقص يعاني منه مجتمع بأكمله في ظل ظروف صعبة من القهر والانكسارات اليومية.

تنقسم الرواية إلى أجزاء، تتشابك خيوطها بنضج رواٸي مسكون بكل تفاصيل الهجرة النفسية والاجتماعية والفکرية لشخصيات مأزومة منذ البداية، يسردها الراوي بلا أي مكياج أو تلميع أو تزييف، فالشخصيات تعاني من إرهاصات وإخفاقات جماعية تحت سقف الحرب الطاحنة التي جرفت معها الحب والقيم وعرّت کل الوجوه، حتی لم يعد بمتناول الكاتب حسب ما نشعر من السيطرة على كل ما يحدث من تهميش للروح وعزلة للنفس وتوهان في امتلاك القدرة على التصرف الصحيح ۔كل شيء قابل للدهشة وللقبول فلا شيء تستغرب حدوثه، ولكن تدهشك الصور وتشد من انتباهك کل الحقاٸق۔ الراوي يدير کاميرته ويرصد المد الجنوني للانسحاق الإنساني والتلاشي عن الوجود بلا أي وجه حق، هناك "جوري" الفتاة المتمردة التي حاولت القفز عن کل ما يجري ومشاکسة الحياة، إلا أن الحياة تعبث بها وتوقعها في فخ نصبته لنفسها دون أن تدري.

وهناك الفنان القادم من سفره المليء بدونجوانيته وأنانيته ونفاقه، الذي يستغل بفنه كل شيء ويستعمله سلاحاً لاستغلال مشاعر الآخرين، وعبد الله الذي أقدم على الانتحار من شدة نبله وأخلاقه وإحساسه بالحب والوفاء بلا أي شروط لحبيبة خذلته ولم تستطع انتظاره وهو العسكري المتألم الذي لاحول ولاقوة له لتغيير مسار حياته. إحساسه بالعجز والفقد والخذلان ومرارة الموقف جعلت منه إنساناً هشاً معطوباً، شوهته الحرب وأخذت عقله فاجعة الحب والظلم ، يمسك بعلبة (سمنة) يحز شريان يده اليسرى بالغطاء النافر منها والقرنفل يسيل من مخيلته ويجري في دمه، ثم يسيل مع ذلك الدم في شوارع اللاذقية، إلى أن يسند رأسه على سور حديقة المتحف الوطني ويغفو..

نحن أمام ھجران متعب، مٶرق، مثقل بالأسى، لقد استطاع الكاتب أن يطفئ كل القناديل من حولنا، كم أتعبنا ذلك، ولكن ليس ذنبه، إنه الواقع.

إن أقسی أشکال الحب، ما يحمل انتظاراً لا يقود إلی الحبيب، وإنما يکون علينا اعتياد فقدانه، ھناك لا ينفع القول بأن الوقت يُشفي من الجراح، فالقساوة لا تُنسی، و إذا لم يستطع المرء أن يواجهها بقساوة أشد سينکسر ويجد المرء نفسه مفتقداً للسعادة وللرغبات، مفتقداً لتلك الحياة المرجوة التي يروح يراقبها وھي تبتعد، مستلباً عاجزاً، محفوفاً بالأخطار، إن وعي التجربة والتعمق فيها وکتابتها بشکل شفاف وصياغتها بذاك البهاء لم تترك لنا مجالاً للشك بأن الحروب لا يمکن أن تبني شعباً.

 استطاع الکاتب وهو واحد من كثر كانوا ومازالوا شاهدين على تلك الأحداث السورية التي لم تنتج إلا الفواجع والغيابات المتتابعة بکل أشکالها وعذاباتها و نزيفها "المكانة الحقيقية للناس تبدأ برحيلهم، تبدأ عندما نواجه العادات التي تركوها في داخلنا قبل غيابهم" ص18.. أجل نحن لا نشعر أول الأمر بحجم الأثر لكل راحل عنا إلا بعد أن نعيد النظر بمکان جلوسهم، وأماکن ملابسهم، وطريقة کلامهم. نستحضر ذلك لنستحضرهم، لنتوهمهم.. يا لبٶسنا.

الهجران.. رواية سلطت الضوء على عتمتنا.. حققت بعض التوثيق لأحداث هي غيض من فيض لما قد نراه في بيوتنا وشوارعنا

 هکذا نتابع عين الکاميرا الروائية التي تحشد التفكك المرعب في عمق العلاقات الإنسانية لتجعلنا أمام تساؤلات مشوشة: مَن يلوم من؟ من الضحية ومن الجلاد؟ من المٶذي ومن المداوي؟ من المسؤول عن کل ھذا الفساد بكل وجوهه؟ من الخاٸن ومن المخلص؟.. من خنق الحرية وخنقنا بها.. استباحها واستباحنا؟ من نحن ومن أولئك وهؤلاء؟ کم التبست علينا الإجابات والمفاهيم والمبادئ: "لقد نجح الطغاة في جعلنا أشباھاً ومسوخاً وأوصياء" ص53.

هل بتنا نعي الحقيقة، وھل استطاع أدب الحرب -إن جازت التسمية- أن يفتح أعيننا أكثر على مسببات تمزقاتنا وقهرنا وخوفنا وقمعنا؟ هل نجح الأدب في فتح فضاءات لتحليقاتنا خارج السرب؟ هل بتنا نستشعر خطر أننا لم نعد نشبه أنفسنا؟

الهجران.. رواية سلطت الضوء على عتمتنا.. حققت بعض التوثيق لأحداث هي غيض من فيض لما قد نراه في بيوتنا وشوارعنا وفي محال الباعة.. وعلى وجوه أطفالنا بكل زوايا خيباتنا وانهزاماتنا، نراها ترفع الستارة لتقول: من هنا مر الهجران والفقدان وثقل الرحيل، مر الحب الذي لم يستطع أن ينجو من الحراٸق، مر الحنين الذي لم يستطع إلا أن يكون دمعاً ودماً وديمومة في كل قلب. من هنا مر الغياب كله ولم تحضر إلا تصدعات الروح. ومر من هنا أيضاً عواء النفاق وخشونة الملامح وعفونة النظرات وزيف الضحكات، ومر الزمن على كل ذلك وستبقى الحقيقة بين بين. مرت الحرية على أكتاف كثيرة، مر الصراخ علی صراعات عديدة.

حاول الكاتب على لسان الراوي أن يسلمنا مفاتيح هجرانه لنشرّع الأبواب والنوافذ ونكشف ونكتشف، نلملم ما يمکن، ننقذ بعض ما بقي  "أيكون الحب هو الحرمان منه؟ أيکون الحب هو اشتهاءَه فقط؟ أيكون شعلة تلتهب في القلب فتنير كل ما في الحياة.. وما إن يلتقطها العاشق حتى تخبو؟ يا للحب! إنه كذلك وأكثر ولكنها الحرب كذلك وأكثر" ص 66.

الهجران قالت علی مدى 224 صفحة الكثير مما في داخلنا من قصص وحكايات ومواقف ومشاهد أدارها الكاتب بوجع وشاعرية، بضوء وعتمة، بدفء وقشعريرة. وازن بين العقل والعاطفة.. بين المخاض والولادة.. بين الجنون والهدوء. ترك لنا بصماته المميزة ككاتب شاب مثقف ومختلف في زمن ومرحلة نحتاج فيهما للاختلاف المثمر دون التبجح والاستعراض والتزلف، نجح في امتلاك أدواته كلها لنلتقط كل مقطع کمن يلتقط حبة دواء أو قطعة سكّر .

وحازت رواية (الهجران) على جاٸزة نجيب محفوظ لأفضل عمل عربي، كما حازت روايته الأولى (حقول الذرة) على جائزة الطيب صالح في دورتها الثالثة.