معركة المجتمع المدني.. بين سوريا والأسد

2023.02.22 | 06:11 دمشق

معركة المجتمع المدني.. بين سوريا والأسد
+A
حجم الخط
-A

مع بدايات عام 2000 وقدوم بشار الأسد إلى السلطة في سوريا، كانت وعود الانفتاح السياسي وتغيُّر المناخ العام في البلاد طاغيةً في المجتمع الذي عانى من ويلات الأسد الأب، فانتشرت المنتديات السياسية في المُدن الكبرى من قِبل سياسيين وحقوقيين وتجارٍ من تلك المدن تحت اسم "ربيع دمشق" مما أوحى ببداية عهد جديد من التعددية السياسية والحريات.

ولكن سرعان ما انقلب الأسد على ربيع دمشق وأغلق تلك المنتديات واعتقل مؤسسيها وروادها، وعادت البلاد إلى الحكم العسكري الأمني للمجتمع، مما شكَّل حالةً من عدم الثقة بين الأسد وحكومته وبين أبناء تلك المدن وخاصة تجارها، بالتزامن مع ضعف الدولة الاقتصادي وعدم قدرتها على تلبية احتياجات الطبقة الفقيرة وذلك بسبب الفساد من جهة وتضييق الدول الغربية على نظام الأسد بعد احتلال العراق نتيجة دعمه للجماعات المتطرفة واتهامه باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، مما دفع النظام للبحث عن سبل أخرى لتعويض عجزه عن الدعم الاجتماعي لتلك الطبقات، فأسس مسارين أساسيين؛ أولهما إعطاء مساحة لجماعات إسلامية تملك ثقة الحاضنة الاجتماعية لجمع التبرعات وتنفيذ المشاريع دون تدخل مباشر في آلية عملها ولكن حافظ على مراقبة نشاطاها ورموزها، ثانيهما الإعلان عن تأسيس الأمانة السورية للتنمية التابعة لأسماء الأسد عام 2007 بشكل رسمي لتكون مظلة للعمل المدني في سوريا والواجهة الخارجية أمام الدول والمؤسسات الدولية  للحراك المجتمعي  في سوريا.

الأمانة السورية للتنمية – الأسد بقناعه المدني

 كان توجه أسماء الأسد منذ بدايةِ حُكم زوجها نحو تجديدِ الشكل الخارجي للمجتمع المدني في سوريا، بعد أن كان حكراً فقط على النقابات والاتحادات التقليدية المؤطرة ضمن حزب البعث، فأكسبت النظام أداة جديدة وهي مؤسسات لا تتبع لتلك النقابات ولكن عملياً مرتبطة بالدولة في كل تفاصيلها ويملِكها رجال النظام، وتوِّجت تلك الجهود التي بدأت عام 2001 بقوننة وجود الأمانة السورية للتنمية عام 2007 التي توسع عملها تدريجياً وأصبح متشابكاً مع فئات المجتمع عن طريق مشاريع شبابية مع الاتحاد الوطني لطلبة سوريا ومشاريع إغاثية ومشاريع تنموية تُعطي لنظام الأسد بُعداً يُغيِّر من صورة الأسد الأب إلى صورة الأسد الابن "الشاب الحضاري" الذي تزدهر بلاده بحراك مجتمع واسع.

كانت انطلاقة الثورة السورية نقطةً مفصليةً بين نظام الأسد ومن ثاروا ضده، حيث اضطر النظام للمرة الأولى أن يواجه مظاهرات مناهضة له تمتد جغرافيتها إلى كل أراضي البلاد، وبالتالي احتاج إلى أن يحشد كل مؤسساته ونقاباته واتحاداته ضد هذا الحراك ومنها الأمانة السورية للتنمية، وعلى الجانب الآخر ثوارٌ  لا يملكون تجربة منظمة في الحراك المجتمعي ومؤسساته، ولكن كانت شجاعة حراكهم تأتي من نجاح ثورتي تونس ومصر في نيل حريتهم الآنية، مما دفع الحراك المدني في سوريا إلى تنظيم نفسه بشكل بدائي بناءً على سلسلة المعارف أو القرابة أو حتى البُعد الإيدلوجي لأن عامل الثقة كان من أهم أركان هذا الحراك وخاصة أن أيَّ اختراق أمني من قبل النظام لأي مؤسسة قد يُفضي بشكل لا شك فيه إلى عدد من المعتقلين والشهداء تحت التعذيب لاحقاً.

بدأت الأمانة السورية مع مرور سنين الثورة تلعب دوراً دولياً بعد العزلة المفروضة على نظام الأسد من قِبل الدول والمؤسسات الغربية، واستطاعت تشكيل شراكات دولية مع الأمم المتحدة والمجلس النرويجي للاجئين وتم اعتمادها في اليونيسكو عام 2012، حيث واكبت كل مراحل الثورة عبر كونها الغطاء الاجتماعي لما بعد اجتياحات النظام ومجازره مثل برنامج التعافي المبكر الذي أطلقته، ومتابعة إصابات جنوده في العمليات العسكرية عبر مشروع جريح الوطن، وبالتالي أكمل الأسد ثلاثية السلطة عبر  السياسة والعسكرة والمجتمع المدني، واستطاعت الأمانة ملء الفراغات الاجتماعية والإغاثية التي ظهرت بعد الخلاف الاقتصادي بين رامي مخلوف وأسماء الأسد في السنوات الأخيرة، وبحسب صحيفة (the Guardian) استطاعت الأمانة تحصيل منحٍ من الأمم المتحدة بقيمة أكثر  من 6 ملايين دولار خلال أعوام 2016-2017-2018، وبرز دورها بشكل كبير ضمن مساعي الأسد لكسر العقوبات المفروضة عليه بعد 2019 سواء بسبب قانون قيصر أو العقوبات الأوروبية.

جاء نمو دور الأمانة السورية للتنمية موازياً لظهور مؤسسات ومنظمات ونقابات سورية تشكلَّت خارج إطار سيطرة الأسد من قِبل أبناء الحراك الثوري، مما نقل الصراع إلى مستوى جديد وهو  السباق نحو الشرعية المدنية أمام السوريين أولاً وأمام الدول ثانياً، وهنا برز تركيز النظام على جانبه المدني ذي الخلفية الأمنية العسكرية لأنه الجانب الوحيد الذي مازال يملك مساحة حركة فيه، وتمثَّل ذلك بمحاولات تغيير واجهات الحراك المدني في سوريا، مثل التعديلات الشكلية التي طرأت على المكتب التنفيذي للاتحاد الوطني لطلبة سوريا، وإلى توسع عمل الأمانة في سنين الثورة حتى أصبحت بمثابة شركة تسويقية للأسد خارجياً، ومحاولات جلب التمويل الدولي للأمانة بتكرار رواية أنها جهة لا تتبع للدولة بل تحاول أن تمكِّن الأفراد من تطوير ذاتهم لتحقيق "التنمية المجتمعية".

مجتمع مدني حقيقي يُولَد

عادةً ما تنتصر الثورات عندما تَهدِمُ ماثارت ضِده، ولكن ما يَتبَعُ الثورةَ من بناءٍ يكون موازياً لأهمية انطلاقها ومكمِلاً لها، حيث هدمت الثورة السورية تفاصيل الأسد من روايات قام من خلالها بتثبيت حكمه وأخرجت البلاد عن قوانين مملكة الصمت إلى هتافات الحناجر الغاضبة المليئة بدماء الآباء وأحلام الأصدقاء وآمال الأبناء، ولكن التحدي الحقيقي يكمن عندما يُفتح المجال العام للعمل في غياب وجود الدولة سواء ضمن الجغرافية السورية المحررة أو خارجها.

تراكمت خلال سنين الثورة تجارب بعض المؤسسات والمنظمات، بعد أن تكاثرت عشرات آلاف المنظمات بين عامي 2011 و2015 ولكن اندثر عدد هائل منها لأسباب يَصعب ذكرها في هذا المقام، وفي الجانب المقابل تمكن عدد كبير منها من مأسسة العمل داخلياً وكسب ثقة قسم كبير من الشعب على الرغم من إرث الأسد المترسب الذي يجعل سياسة الشك والتخوين مبدأ قبل أن يُمدح الفاعل أو يُثنى على الباذل، ولكن تلك المؤسسات لم تقم بدورها المدني فقط، ففي حالة الدول المستقرة الطبيعية ليس من مهام المجتمع المدني أن يُعمِّر المدن ولا أن يؤسس المدارس للتعليم الأساسي ولا أن يناشد الدول من أجل مساعدة الأطفال الأحياء تحت الأنفاض إما بسبب قصف الأسد أو كوارث طبيعية حلت بالبلاد، بل دوره الأساسي يكمن في التنمية المجمعية ورفع كفاءة أفراد المجتمع ومساندة الدولة في القطاعات التي لاتستطيع العمل بها وأيضاً المطالبة بحقوق فئات الشعب وحمايتهم من القوانين التي قد تُصدرها الدولة بحقهم، والمشاركة في صياغة تلك القوانين بناءً على الاختصاص والتجربة، لكن كما هي الحالة السورية استثنائية ككل؛ كان العمل المدني يعوِّض غياب الدولة من جهة فيؤدي خدماتها من فتح المدارس وإعمار المجمعات والاستجابات الطارئة للكوارث والمجازر  وموجات النزوح الداخلي والخارجي ويحاول تنمية المجتمع من جهة أخرى، ويقابله مجتمع أمني بصبغة مدنية يتبع للأسد ويتفنن في تجهيل الشعب وتكريس رؤية الديكتاتور  وروايته حول كل ماجرى في البلاد.

يواجه المجتمع المدني السوري (الذي تجاوز طور الولادة وأصبح في طور النمو) تحدياً كبيراً لكسب شرعيته الدولية في ظلِّ الصراعِ مع نظامٍ مجرمٍ فاقدٍ لأدواته بعد تجميد الصراع العسكري بين مناطق نفوذه والمناطق الخارجة عن سيطرته، وبعد خسارة ورقة إعادة تعويمه دولياً عبر إعادة اللاجئين بعد فشل المؤتمرات التي عقدها تِباعاً، فلم يتبق له إلا الشق الإنساني والمدني ليكونا مدخلاً  له لإعادة التواصل مع الدول ومطالبتهم  برفع العقوبات التي فُرِضت على عددٍ من رموزه وقياداته الأمنية والعسكرية ومؤسساته الاقتصادية، وشكَّل الزلزال الذي ضرب الجنوب التركي وعدداً من المدن السورية فرصة ذهبية لوضع أوراق جديدة في يد مؤسسات الأسد المدنية لزيادة حراكها وتواصلاتها على حساب المأساة السورية، حيث زاد الأسد من وتيرة تواصلاته وفُتحت مطاراته لعدد من طائرات المساعدات العربية بعد أن اقتصر عمل تلك المطارات خلال سنين الثورة فقط على استقبال المرتزقة المقاتلين من مختلف أنحاء العالم، إضافة لربط عجزه عن تقديم الخدمات بالعقوبات المفروضة عليه على الرغم من عدم علاقة العقوبات بأي منظومة صحية أو إغاثية.

على الجانب الآخر من مسرحيات الأسد التي عجزت عن تحقيق دعمٍ مباشر لإعادة الإعمار أو تعويم الأمانة السورية للتنمية، بل فقط حصل على مساعدات مباشرة سُرقت وأصبحت في أسواق شبيحته تُباع علانية ولم ينل المدنيون في مناطقه أي نصيب منها، كان هناك مؤسسات مدنية سورية وطنية استنفرت للبحث عن ناجين من تحت الأبنية المُهدمة كالدفاع المدني (الخوذ البيضاء)  ومن خلفه المؤسسات والمنظمات والمدنيين الذين وضعوا كل قدراتهم تحت إمرة الخوذ البيضاء لإنقاذ مايمكن إنقاذه من المدنيين على الرغم من ضعف الإمكانيات وغياب القوافل الدولية في الأيام الأولى من الكارثة، بالإضافة لحشد المنظمات لقدراتهم من أجل إيجاد أماكن إيواء للعائلات المُهدمة بيوتهم من جراء الزلزال.

ختاماً، على الرغم من هول الكارثة الأخيرة وكل الكوارث المتتالية في العقد الأخير من تاريخنا، نجد أن المجتمع السوري بدأ يُنشِئ تجربته الخاصة بعد قناعته بأنه لا ملجأ للسوري إلا أخاه، وأن النظام سيعمل جاهداً في الفترات القادمة بأن يصبح السوري الذي أُخرج من بيته من أجل كرامته فاقداً للثقة بكل ما هو سوري.