معارض سوري يحاول خنق أبيه ويقتل أخاه بدم بارد..

2024.02.08 | 06:43 دمشق

معارض سوري يحاول خنق أبيه ويقتل أخاه بدم بارد..
+A
حجم الخط
-A

أن يحاول معارض سوري خنق أبيه وأن يقوم بقتل أخيه بشكل فعلي وبدم بارد، هو خبر من شأنه أن يهز الرأي العام ويشغل السوريين جميعاً من معارضين ومؤيدين حتى لو كان الجاني شخصاً عادياً لا علاقة له بالسياسة، ومع ذلك مرّ الخبر بارداً وكأنه لا يستحق التوقف عنده أو التعليق عليه لأن ملابسات القضية تداخلت مع واقع سياسي معقد غطى على الحادثة وحدّ من انتشار تفاصيلها، بل إن القضية برمتها أهملت وكأن شيئاً لم يكن..

بدأت الحكاية عندما خرج المدعو "حافظ دواي" بفيديو يكشف فيه الماضي الإجرامي لابنه ماجد الذي حاول خنقه عندما كان عمره ثمانية عشر عاماً، وفي العام 2007 أقدم على قتل أخيه بدم بارد، وهي ليست مجرد محاولة للقتل، بل حادثة وقعت بالفعل..

ورغم الصمت الذي غلّف تلك القضية لسنوات طويلة، فإن الأب المنكوب تطوّع لإعادة إثارتها وفتح الملف من جديد، معلناً تبرُّؤهُ من ابنه المجرم وغضبه عليه، فلماذا تأخّر الأب كل تلك السنين ليكشف حادثة لا يمكن أن يتأخر ردّ فعله عليها كلّ ذلك الوقت؟ ولماذا اختار هذا التوقيت لإعادة فتح ملف ابنه وكشف تاريخه الإجرامي؟

منذ عدة أشهر برز اسم "ماجد دواي" من خلال مجموعة من الفيديوهات التي نشرها في صفحته على فيس بوك وقناته على يوتيوب، وتناول من خلالها نظام الأسد وقام بفضح جرائمه وتفنيد روايته وتشريح ذهنيته وتركيبته المافيوية..

إلى هنا يبدو المشهد عادياً، فثمة مئات من معارضي نظام الأسد ممن نذروا أنفسهم لفعل ذلك، ولكن المختلف أن "ماجد دواي" ينتمي إلى حاضنة النظام وظل لسنوات محسوباً على مؤيدي الأسد وثمة روايات تؤكد أنه قاتلَ ضمن صفوفه في أثناء خدمته العسكرية، معتقداً حينذاك أنه يدافع عن الوطن لا عن الأسد..

فجّر ماجد دواي قنبلة تردد صداها في القصر الجمهوري ذاته وبين أتباع النظام حين انضمّ لصوت الحق والعدالة، وراح يتحدث بشجاعة فائقة عن حقيقة النظام، وتناول بشار الأسد شخصياً وعائلة الأسد بالكامل بالانتقاد اللاذع والسخرية الحادة وحمّل بشار الأسد بشكل مباشر مسؤولية كلّ ما آلت إليه سوريا من أوضاع متردّية، وحمّله مسؤولية تدمير سوريا وقتل شعبها وزرع الشقاق والفتنة بين أهلها، وطالبه بالإفراج عن المعتقلين، كما طالبه بشكل مباشر بالتنحي..

وفي الواقع فإن ماجد دواي بدأ بنشر فيديوهاته منذ خروجه من سوريا مع عائلته في العام 2019، ولجوئه إلى إحدى الدول المجاورة للابتعاد عن قبضة الأسد وأتباعه، ويبدو أن تلك الفيديوهات لم يحالفها الحظ بالانتشار على نطاق واسع، ولكنها منذ بضعة أشهر بدأت تنتشر كالنار في الهشيم وأصبح اسم ماجد على قائمة الاستهداف من قبل أتباع النظام الذين بدؤوا حملة تشويه ممنهجة كما يفعلون دائماً مع كل صوت يخرج عن إجماع القطيع المتجانس والمتوافق مع روايات النظام وادعاءاته مهما بلغت من الهشاشة والتفكك والكذب المفضوح..

ربما كان والد ماجد أذكى من المخابرات إن كان هو من قام بصياغة التسلسل الخاص بالحكاية التي نشرها، إذ كشف التلفيق بشكل غير مباشر من خلال ترتيب دوافعه لفضح تاريخ ابنه الإجرامي

ولأن الصفعة هنا مزدوجة، بل ثلاثية الأبعاد في الواقع، فهو معارض جديد لم يكن النظام يتوقع ظهوره من جهة، وهو من جهة أخرى واحد من المحسوبين عليه بما يقطع الفرصة عليه في اتهامه بالإرهاب والسلفية والداعشية، ومن ناحية ثالثة فقد جاءت تلك الصفعة بعد النصر الكبير الذي يُشعر الأسد بأنه قد حققه، ولهذا فقد كثف النظام جهوده لتوجيه ضربة قاضية لصدقيّة "ماجد" ووضع أسرته تحت التهديد والضغط الشديدين وقام بتلفيق الرواية التي يضمن من خلالها تشويه سمعة معارضه الجديد كمرحلة أولى، إلى أن يتمكن من تصفيته أو اعتقاله أو -بالحد الأدنى- إسكاته.

ما يثبت أنَّ رواية الأب ملفقة من قبل المخابرات السورية هو الرواية نفسها بما تحتوي عليه من متناقضات، فضلاً عن التوقيت الذي انتشرت فيه تلك الرواية، وربما كان والد ماجد أذكى من المخابرات إن كان هو من قام بصياغة التسلسل الخاص بالحكاية التي نشرها، إذ كشف التلفيق بشكل غير مباشر من خلال ترتيب دوافعه لفضح تاريخ ابنه الإجرامي.

ابتدأ الوالد بالحديث عن خيانة ابنه للوطن ومحاولته تدنيس رموز الوطن، يقول الأب في هذا السياق: "أنا غاضب عليه وأعلن براءتي منه لأنه حاول أن يسيء للوطن ورموز الوطن ورئيس الوطن، ولكنه أساء لي ولإخوته ولأفراد أسرة آل دواي وللمجتمع الذي انحدر منه وهو مدينة اللاذقية، وبالتالي فهو يسيء لأهل اللاذقية جميعاً كما يسيء لسوريا برمتها".

وإن دققنا في هذا النوع من الخطاب فمن السهولة بمكان اكتشاف الهدف الأساسي منه وهو إرضاء النظام لتجنب انتقامه من العائلة، وهو بالضبط ما أرادته المخابرات من الأب، وبما أن ذلك المحتوى كان الأساس للفيديو الذي نشره الأب وبناء عليه قرر التبرؤ من ابنه، فهو دليل أولي ناصع على أنه إملاء لا لبس فيه من قبل الأجهزة الأمنية، ولا سيما إن قاطعنا شكل هذا الخطاب وأسلوبه ومضمونه مع كل الاعترافات التي أجبر النظام أهالي آخرين أو معتقلين لديه على الإدلاء بها وخصوصاً تلك التي كان يصورها ويبثها على شاشاته.

الجديد هنا أن المخابرات لم تصور اعتراف الأب لبثه على شاشاتها، بل أجبرت الأب على تسجيل فيديو لتبدو الحكاية وكأنها مبادرة شخصية منه لا دخل للأجهزة الأمنية بها، وهو دليل أكبر على الصناعة المخابراتية.

وبعد الديباجة المرصعة بتمجيد النظام، قرر الأب الكشف عن الماضي الإجرامي لابنه فتحدث عن محاولة الخنق التي قام بها ماجد بحقه عندما كان عمره ثمانية عشر عاماً ولم يذكر الوالد سبب فشل محاولة الخنق التي قام بها الابن اليافع المسكون بالإجرام بدليل نجاح محاولته في قتل أخيه، رغم أن احتمالات نجاح قتل الأب الضعيف جسدياً أكبر من احتمالات قتل الأخ.

فيما يتعلق بحادثة الخنق، يذكر الوالد أنه لجأ إلى شرطة الرمل الشمالي حينذاك وقدّم شكوى ضد ابنه، ولكنه لم يذكر شيئاً عما ترتب على تلك الشكوى ولا عن العقوبة أو الحكم القضائي الذي صدر ضد ابنه، تماماً كما لم يذكر شيئاً عن العقوبة التي تلقاها ماجد في جريمة قتل أخيه، ومن الواضح أن المجرم "ماجد" لم يُحكم ولم يُسجن، وإلا لمَا تكتّم الأب على العقوبة كونه لم يتكتم على الجريمة ذاتها، رغم غضب الأب على الابن ورغبته في نيل ابنه العقاب.

وإذا كانت محاولة الخنق قد مرت بلا عقاب من الدولة باعتبارها محاولة فاشلة، فكيف يمكن لجريمة القتل أن تمرّ أيضاً من دون عقاب؟ وكيف للأب الذي فُجع مرتين أن يقدّس رموز النظام ورئيس النظام الذي لم يتدخل لتحقيق العدالة والاقتصاص من القاتل واكتفى بغضب أبيه عليه؟

أمّا حادثتا الخنق والقتل -وهما الأساس الذي دفع الأب للتبرؤ من ابنه- فقد جاءتا في المقام الثاني في رواية الأب، ما يؤكد أيضاً الجانب الملفّق في الرواية المخابراتية..

أصابع المخابرات السورية إذن واضحة وبشكل لا لبس فيه في الفيديو الذي نشره والد ماجد، في الفكرة والتوقيت وطرق الصياغة وأساليب تلفيق الملف المتشابه مع كل الملفات الأخرى

الجزء الأكثر أهمية، والذي يؤكد ذلك التلفيق من جديد، هو مناشدة الأب في نهاية الفيديو لكل شرفاء العالم العمل على تسليم ابنه للمخابرات السورية، أو ما سمّاها "العدالة"، لأنه أساء لسوريا، وهو يعتب على كل شريف يستطيع أن يسلّم ابنه ولا يفعل.

وفي نطاق مطالبته بتسليم ابنه نسي الأب حادثة القتل ومحاولة الخنق، وركز فقط على ذنب الإساءة للوطن ورموزه في تبريره لضرورة تسليم ابنه، صحيح أن الوالد أكد على محبته لسوريا، وأنها أغلى من دمه وأولاده، ولكنَّ ذلك لا يمنعه أن يطالب أيضاً بالعدالة في قضيتي القتل ومحاولة الخنق.

أصابع المخابرات السورية إذن واضحة وبشكل لا لبس فيه في الفيديو الذي نشره والد ماجد، في الفكرة والتوقيت وطرق الصياغة وأساليب تلفيق الملف المتشابه مع كل الملفات الأخرى والهدف الذي تسعى إليه تلك الأجهزة، ولا سيما في التحريض الموجه لسلطات البلد الذي يقيم فيه ماجد لتسليمه.

وإذا كان التلفيق جريمة أخلاقية كبرى، فإن الجريمة الأكبر التي يضيفها النظام إلى سجله تتجسد في تفكيك الأسر وتشويهها وتدمير روابطها الاجتماعية الاعتيادية، غير أن نظاماً لم يتوانَ عن ارتكاب المجازر الجماعية وتهجير الملايين وقتل واعتقال مئات الآلاف وتدمير وطن بكامله، لن يجد في جرائمه الجديدة شيئاً يستحق التوقف عنده..