مراجعات لغويّة وإعادة اللاجئين

2023.01.05 | 05:59 دمشق

مراجعات لغويّة وإعادة اللاجئين
+A
حجم الخط
-A

ليس غريبا أن يهتمّ الشعب السوري بنبوءات العرّافين والعرّافات لاستشراف مصيره أكثر من اهتمامه بتصريحات مسؤولي المعارضة السّوريّة، وأكثر من اهتمامه بالتصريحات السياسيّة لمسؤولي حكومات طالما صرّحت بكلام عاطفي تجاه السوريّين، وأكثر أيضا من تحليلات للتصريحات تنافس في لا منطقيّتها كلام العرافة وربّما تتفوّق عليه!

مثل تحليل مفاده: أنّ مصالحة الحكومة التّركيّة مع النّظام الذي قتل ولا يزال يقتل السوريين إنما هي: مسعى للحفاظ على حقوق السّوريين. أو حديث عن إمكانيّة "عودة آمنة" للسوريين الهاربين من بطش النّظام إلى حضن النّظام ذاته بضمان حصولهم على "محاكمات عادلة"!

الأمانة تقتضي منّا الاعتراف بأنه ما من مسؤول تركي أو غير تركي تحدّث عن عودة اللاجئين السوريين إلا وأردف العودة بكلمات من مثل: "بمحض الإرادة - عودة آمنة وكريمة"، ثمّ يسند كل تلك المعاني البرّاقة إلى يافطة: "الحفاظ على وحدة سوريا"!

لعلّ الكلام عن "محض الإرادة" كلام جميل؛ إذ منذ بدء نشوء الدول الحديثة استندت كل المفاهيم السياسيّة والمدنيّة إلى أنّ الإنسان يمتلك إرادة حرّة تسعى إلى تحقيق مصالحها، ولعلّ الحكومة المدنيّة جاءت لتلبية تلك مصالح مجموع الإرادات الحرّة، ولعلّ الرئيس التركي رجب أردوغان وحزبه لا يخرجون عن هذا المعنى في سعيهم لكسب صوت إرادة المواطنين الأتراك لتمثيل مصالحهم في دورة رئاسية وبرلمانية قادمة.

سوريّاً فإنّ "محض الإرادة" أو الإدرادة الحرّة هو ما نفاه بشّار الأسد عن السوريين  الذين هتفوا للحريّة عام 2011، إذ اتّهمهم رئيس البلاد بالعمالة، وبالتظاهر لقاء: "خمسمئة ليرة سوريّة وسندويشة فلافل وحبّة كبتاغون"، وفي مرحلة مبكّرة سبقت وجود الإرهاب ذاته في سوريّا اتّهم رئيس البلاد مئات آلاف السوريّين بالإرهاب!

خرج السوريّون بثورة لنيل الاعتراف بحريّة إرادتهم فهل وعت مجموعة دول أصدقاء الشعب السوري مثل تلك الحقيقة حين نصّبت عليهم معارضة تمثّل مصالح الدّول وتهمل مصالح السوريين!

الحريّة والكرامة هما شعار الثورة السوريّة وانتفاضة السوريين كانت لاسترداد كرامتهم؛ تلك التي أوغل النظام المجرم في سحقها، وشاهد العالم كلّه عبر وسائل الإعلام شبّيحة النّظام وهم  يدوسون على رؤوس السوريين، وسمعوا صرخة سوري يقول: "داسوا على راسي، أنا إنسان ماني حيوان" فهل وعى منظرو العودة الكريمة مثل تلك الحقائق السوريّة بالفعل!

أمّا فيما يتعلّق بوحدة الأراضي السوريّة فربما تدفع البداهة إنساناً سوريّاً للتساؤل: هل حريّة المواطن السّوري وكرامته تهدّد وحدة الأرض السوريّة!

بالنسبة إلى "العودة الآمنة" فإنّ معجم التجربة السوريّة قد أفرز معاني يصعب الوقوف عليها عبر ترجمتها لغويّا باستخدام مترجم غوغل؛ بل يحسنُ وعي مفهومها بالنسبة إلى السّوريّين الذين يخافون من عناصر "الأمن" أكثر من خوفهم من اللصوص أو من الوحوش الضارية؛ فالوحوش قد تكتفي بأكل أحد أفراد الأسرة، واللصوص قد يكتفون بسلب المال؛ أمّا عناصر أمن النظام السوري: فيسلبون المال والشرف والروح، ثم يتّهمون الضحية بالإرهاب، وقد يحرقون جثّته، وليس مستغرباً ملاحقة أفراد أسرته.. ألم يقل بشّار الأسد يوماً: إنّ وراء كل متظاهر أسرة وأصدقاء وحياً. وهؤلاء كلّهم متّهم لدى عناصر أمن النظام، فهل يعي المتحدثون عن العودة الآمنة أنّ لغة المعجم قاصرة عن الإحاطة بالمعاني السوريّة!

أمّا فيما يتعلّق بوحدة الأراضي السوريّة فربما تدفع البداهة إنساناً سوريّاً للتساؤل: هل حريّة المواطن السّوري وكرامته تهدّد وحدة الأرض السوريّة!

وهل رفع متظاهرو الحريّة يوماً يافطة تقول: "نحن أو نمزّق سوريا" على غرار عقيدة شبيّيحة النّظام: "الأسد أو نحرق البلد"!

أم يعتقد المهتمون بوحدة سوريا أنّ الشعب الثائر كان بالفعل عميلا لأميركا في إنشاء جغرافيا جديدة اسمها الشرق الأوسط الجديد!

يقال: إنّ أميركا تعمل على إنشاء خارطة شرق أوسط جديد، وإنّ تقسيم سوريا جزء من المخطّط الأميركي؛ وإنّ هدف مسار أستانا والدول الداعمة له الوقوف في وجه المخطط الأميركي، فيتساءل سوري: من تلك الدّول التي تصارعت بالوكالة في سوريا تحت شعارات طائفيّة حتّى مزّقت سوريا فأنفذت مخطط الأعداء الأميركان!

أم أنّ الشعب السوري هو صاحب المصلحة في تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ. إذ من هوايات المواطن السّوري الهائم على وجهه دفع رسوم حين يريد التنقّل من منطقة سوريّة إلى منطقة سوريّة أخرى!

ولا بأس أيضا من مراجعة لغويّة لألفاظ من مثل: "الدولة -النّظام": إذ ربّما استعان مواطن أسترالي بمترجم غوغل لقراءة خبر عن السوريين فتوهّم ذلك الأسترالي أنّ الشعب السوري ثار على "نظام"؛ ومن ثمّ فهو شعب متوحّش لا يطيق نظاما مدنيّا، من دون أنْ يعلم ذلك الأسترالي المسكين أنّ السوريين يطلقون مفردة "نظام" اختصارا لتركيب: "نظام القتل الممنهج"، كما لا يقصد السوريّون بكلمة "دولة" تلك المؤسّسات الخدميّة كوزارة الزراعة أو شركة الكهرباء؛ بل جملة الأجهزة والمؤسّسات الأمنية إضافة إلى الجيش باعتبارها أدوات قتل وإرهاب في يد نظام القتل الممنهج!

لا يشكّ السوريّون أنّ المسؤولين الأمنيّين والعسكريّين ووزراء الخارجيّة الروس والإيرانيّين يدركون خصوصيّة المعاني السوريّة رغم تعمّدهم تجاهلها درءا للإحراج الذي يمكن للمنطق أن يدفعهم إليه، لكن هل نسي المسؤولون الأتراك مثل تلك البديهيّات السوريّة!

من جهة أخرى يمكن أن يفهم السوريّون آمال وتوقّعات المسؤولين الأتراك بأن يسعى بشّار الأسد إلى تفكّك قسد أو pkk، أو أنْ تسمح أميركا بأن ينتشر جيش النظام على طول حدود تركيا مع قسد شرق الفرات -على سبيل المجاز، إذ لا يُعقل أنْ تكون تلك الآمال واقعيّة.

من جانبها علّقت الخارجيّة الأميركيّة على المباحثات الثلاثية بين مسؤولي روسيا وتركيا ونظام الأسد في موسكو بأنّ: "أميركا لا تدعم أيّ تطبيع مع نظام الأسد" ومن جديد يمكن للسوريين أن يستعينوا بمنهج تقييم عناصر أمن النظام للشعب السوري بين: (عضو عامل – عضو- حيادي إيجابي- حيادي سلبي) لاعتبار التصريح الأميركي: "حيادي إيجابي" تجاه التّقارب بين تركيا والنّظام السوري، ولا يختلف عن موقف أميركا من مسار أستانا ومن مؤتمر سوتشي طالما أنّ مفاعيل هذا الحراك لن تصل إلى شرق الفرات!

النقطة الأخرى تتعلّق بطلب وزير دفاع النظام "حصر مشاريع التعافي المبكر في مناطق سيطرة النّظام" ويقابلها مصلحة تركيّة وروسيّة كذلك في إعادة اللاجئين للبدء في مشاريع إعادة الإعمار!

إذا اتّفقنا -كسوريين- أنّ اللغة العاطفيّة لا يعوّل عليها في الشأن السياسي فربّما يمكننا العثور على نقاط واضحة وصريحة تفسّر طبيعة التقارب بين تركيا وبين حكومة نظام الأسد. إذ تذكر بعض المواقع الإلكترونيّة تسريبات عن اجتماع وزراء الدفاع في موسكو، وتشير التسريبات إلى نقاط تتعلّق بالتّعاون شرق الفرات -وهذا ما لم نعتقد أنّه جاد- وتشير إلى نقاط  أخرى نظنّ  أنّها أكثر واقعيّة من مثل: طلب النّظام السيطرة على معبر باب الهوى، إذ يقابل هذا الطلب مصلحة تركيّة وروسيّة في فتح خط التجارة العالمي m5 الذي يصل بين باب الهوى وبين معبر نصيبين/ جابر الأردني..

النقطة الأخرى تتعلّق بطلب وزير دفاع النظام "حصر مشاريع التعافي المبكر في مناطق سيطرة النّظام" ويقابلها مصلحة تركيّة وروسيّة كذلك في إعادة اللاجئين للبدء في مشاريع إعادة الإعمار!

إذا وضعنا ملف اللاجئين السّوريين في تركيا في سياقه السياسي التّركي؛ فلعلّنا نلتفت إلى تنافس بين حكومة العدالة والتنمية وبين معارضتها، يتجاوز -ربّما- إعادة اللاجئين لإرضاء المواطن التّركي وكسب صوته في الانتخابات القادمة؛ إلى التنافس على إدارة حصّة تركيا من عقود مشاريع إعادة الإعمار في الشمال السوري..!