مدينة حلب والثورة.. (1 من 2) مقدمات وردود

2019.05.25 | 14:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم أتوقع أن يثير مقالي «شهبا وش عملو فيكي؟» سجالاً، فقد كُتب تعليقاً على حادثة محددة هي سقوط قذائف على مدينة حلب في الساعات الأولى من الأربعاء 15 أيار. حصل هذا وفي خلفية المشهد سياقان كبيران؛ الأول محاولة الحلبيين، وأعني من كانوا يسكنون أصلاً في مناطق النظام، استئناف نمط حياتهم الذي قطعته الثورة، المؤسّس على «البسط» بعناصره المكوّنة عندهم من الطعام والسهر والطرب والأراجيل، وقد ظهر هذا في فيديوهات وصور الليالي الرمضانية الحافلة. أما السياق الثاني فكان هجوم النظام وحلفائه على ريف حماة وقصفه إدلب. كان هذان السياقان يجريان منفصلين حتى أعاد القصف وصلهما، فرجع الحلبيون إلى أنانيتهم الضيقة بالقول: «اتركونا بحالنا... ما بقى نخلص!»، دون أن يهتموا لأي دماء سالت سوى دمائهم.

كان هذا سبب كتابة المقال، وكان هؤلاء جمهوره المستهدف. كنت أود أن يُقرأ في حلب «الغربية»، بعد أن هيمنَتْ على مجمل المدينة، لينتبه أحدٌ هناك إلى أن في البلد ضحايا آخرين، كان قد سقط عدد منهم في جسر الشغور قبل ساعات، وأنها لا تستطيع دفن رأسها في الرمال وتجاهل ما يجري خارجها، كما حاولتْ، برأيي، منذ اندلاع الثورة، لأن هذا الموقف غير واقعي، فضلاً عن أنه غير أخلاقي.

ما حصل بعد ذلك ليس مفهوماً بالنسبة لي. انتفض ثوار حلب، أو أكثرهم، وكأنهم المعنيون بالتقريع! وكأنهم ليسوا أهل جسر الشغور الآن، أو لم يكونوا في موقع أهل جسر الشغور عندما كانوا في حلب «الشرقية»، وكان الشطر «الأبيض» من المدينة لا يحس إلا بدماء شهدائه التي سالت بفعل قذائف الحقد، ويغضّ النظر عن أكبر كمية براميل ألقيت عبر سنوات، وأدت إلى استشهاد الآلاف وتهجير عشرات الآلاف قهراً.

ليس من الصحيح أن يكتب المرء مثلاً: إن احتجاجات العاصمة الفرنسية اندلعت في الأحياء الطرفية التي يقطنها المهاجرون. عليه أن يقول إن «باريس قامت».

            هكذا... انتفض المهجّرون «للدفاع عن حلب» في وجه ما رأوا أنه محاولة «للنيل منها»! أو للذود عن تجربتهم الثورية الشخصية التي ظنوا أني هدفت إلى «نكرانها»! بدا لي هذا غريباً للغاية. حاولت تحليله فلم أجد تفسيراً سوى أنهم يعتبرون أن حلب إنما هي هم فقط، وأن أي كلام عنها هو كلام عنهم، وهذا غير صحيح طبعاً، أو أنهم يرون أن الثائر منهم يشفع لسبعين من أهل مدينته حقّت عليهم الرمادية الموصلة إلى التواطئ مع النظام، وهو توجّه غير مقبول كذلك، أو أن الأمر، ببساطة، مجرد تعصب لمدينة «حلب العظيمة»!!

            نحن مسكونون بالتاريخ. منه استمددنا صورة حلب، ومنه نستقي صورتنا عن الكاتب الذي هو عندنا سليل الشاعر. ووظيفته، بالتالي، هي الدفاع عن عشيرته والإشادة بمحاسنها وستر عيوبها لا «تسليمها للخصوم»! ولهذا يكون أول سؤال عند التعاطي مع أي مقال ناقد هو عن كاتبه؛ لا بد أنه من الريف أو من إحدى المحافظات، «فالكل يغارون منّا»! أما إن كان من المدينة فيا حيف على «قلة الأصل» التي دفعته إلى «اتهام» مدينته بكذا و«الافتراء» عليها وهي «تاج الرأس»! لا مجال لأن يكون هذا رأيه أو تحليله أو حصيلة تجربته، فالرأي رأينا والصحيح ما نعرفه... لا يمكن أن تكون دوافعه هي النقد والرصد بل التآمر والمكيدة، ولا شك أن هناك «أعطية» ما وراء انقلابه على عشيرته هاجياً. فمهمته، كأي شاعر في مجالس القبيلة ومضاربها، تراوح بين الفخر والمدح والرثاء والهجاء!

            ليس من الصحيح أن يكتب المرء مثلاً: إن احتجاجات العاصمة الفرنسية اندلعت في الأحياء الطرفية التي يقطنها المهاجرون. عليه أن يقول إن «باريس قامت»، كيلا تشمت بها مرسيليا! ويفضّل أن يُلحق ذلك بعبارة من نوع «عن بكرة أبيها» أو «في شرقها وغربها وشمالها وجنوبها». لا معلومات، لا تحديد، لا تمييز... بل إباء!

إن عثرنا في داريا على ثلاثة مخبرين وفي القرداحة على ثلاثة معارضين فهذا يكفي للقول إن في كل مكان من سورية مؤيدين ومعارضين. وعليك أن تكتفي بمنطق «مو كل أصابيعك متل بعضها» و«كل بلد وفيه كفايته»... إلخ.

            ومن هنا أزعم أن ما تعرضتْ له المقالة من رفض حاد، من البعض، مبعثه تعصب القبيلة وجرحها، رغم أنه استخدم بعض المعطيات العقلانية التي تجدر مناقشتها لئلا تشوش المشهد.

            أول هذه الانتقادات هو «التعميم الخاطئ». رفض التعميم قاعدة منطقية صحيحة وعادلة لكنها بدائية، لازمة لكنها غير كافية. إذ لا يستطيع الكاتب إلا أن يستخدم التغليب الذي يُكتَب بصيغة التعميم، وإلا لما كتب شيئاً. عندما يقال إن دمشق رحّبت بالجيش العربي بقيادة فيصل بن الحسين فإن هذا لا يعني أن المؤرخين فتشوها بيتاً بيتاً واستطلعوا آراء سكانها بالواحد! هذا متعذر، ولا شك أن هناك من استاء من دخول الأمير الهاشمي لسبب أو لآخر. يرسم الكاتب صورة للمشهد العام، وخاصة عند غياب الإحصاءات، وهو مسؤول عن صحة رؤيته، هذا بديهي. وحتى من يكررون حجة رفض التعميم لا يجدون حرجاً على الإطلاق في أن يقولوا، مثلاً: «عانت أحياء حلب من الحصار»، دون أن نطلب منهم ذكر قلة لم تعانِ من الحصار، أو ربما استفادت منه، فهذا طبيعي. ثم ما بال رافضي التعميم لا يلجؤون إلى هذا السجال إلا انتقائياً وضد ما يزعجهم فقط؟ فلو قلتَ إن أهل المنطقة الشرقية امتازوا بالكرم ما انتفض في وجهك منهم أحد، رغم أن فيهم بخلاء بلا شك، كما في كل الشعوب!

إذاً، التعميم ضرورة للتعبير عن الأغلب، وإلا لامتلأ أي نص بكلمات الاستثناء والترجيح والتجزيء. ولا يقصد أي كاتب من التعميم أن الناس الذين يصفهم من قالب واحد، فهذا مستحيل حتى في كوريا الشمالية!

            النقد العقلاني الثاني الذي وُجِّه إلى المقال هو «تعزيز المناطقية». في الحقيقة يتعرّض الكثير مما أكتبه لهذه «التهمة» التي مردّها أنني أرى أن الجماعات الأهلية السورية كثيراً ما تكون أبرز محددات الشخص عندنا، مع ضمور الفردية وهشاشة البنى الحديثة ونخبويتها. للأسف إن هذه الجماعات، قبَلية كانت أو طائفية أو مناطقية، لم «تخيّب ظني» ولا مرة، حين تنتفض جماعياً لما تظن أنه الدفاع عن حياضها، وحالة حلب والحلبيين التي نحن فيها مثال صارخ.

لكنني لا أهدف من وراء تناول الجماعات وتأثيرها في تكوين شخوص أفرادها إلى تعزيزها طبعاً، بل إلى الكشف عن آليات اشتغالها لتصبح تحت الضوء، في خطوة أولى ضرورية للتمرين على تجاوزها. نعم، هذه الطريق غير آمنة كلياً، وهي محفوفة بخطر استنفار العصبيات وتعزيزها لحظياً، لكن من واجبنا أن نتعاون جميعاً على السير بها في طريق الضبط والتفكيك.

لا أهدف إلى «إثارة الفتنة» بلا شك، لكن النظر إلى الانقسام السوري الحالي على أنه مجرد اصطفاف مؤيدين من كل الجماعات ضد ثوار من كل الجماعات هو نظر شديد الفقر، لا يقدّم تفسيرات ولا يمنح أدلة عمل.

            لا أهدف إلى «إثارة الفتنة» بلا شك، لكن النظر إلى الانقسام السوري الحالي على أنه مجرد اصطفاف مؤيدين من كل الجماعات ضد ثوار من كل الجماعات هو نظر شديد الفقر، لا يقدّم تفسيرات ولا يمنح أدلة عمل.

            أختم هذه المقالة بحديث عن واجب المثقف في نقد «جماعته» بالتحديد، سواء أكانت أهلية أم حديثة، جرى في الأشهر الأولى للثورة بيني وبين مثقف علوي معارض عتيق. يومها دار الكلام عن التمييز لصالح العلويين في سوريا الأسد، وكيف أن البوادر الطائفية السنّية في الثورة، وكانت بسيطة حينها، نتيجةٌ «طبيعية» لهذا التمييز، وإن تكن خطرة تهدد بتدمير البلاد. فسألت الأستاذ عن السبب الذي منع المثقفين العلويين المعارضين عن الإشارة إلى هذه المسألة خلال عقود طويلة. توجس قليلاً وظن أنني أشكك في صدق معارضته وحسن نية رفاقه وأمثاله، وهو ما لم يكن هدفي، فقلت موضحاً: لا أنفي أنكم عارضتم حافظ الأسد، انتقدتم دكتاتوريته وحكمه العسكري وأجهزة أمنه وسجونه حتى دخلتوها، لكن أستفسر عن هذا التمييز لماذا لم يكن أحد بنود معارضتكم، تحذيراً من العواقب التي لا بد أن تنتفض ذات يوم، مما لن يكون في مصلحة سورية ولا الطائفة ولا خصومها؟ أعتقد أن هذا كان واجبكم أكثر من سواكم، فعندما ينتقد مثقفون علويون التمييز الطائفي سيعني هذا الكثير، بخلاف اعتراض الإخوان المسلمين أو رجالات السنّة عليه. أعلم أنكم علمانيون، لكن ترفعكم عن تناول المسألة الطائفية كان مضراً للبلاد وتقصيراً في دوركم كمثقفين. بالضبط كما يجدر بنا الآن، أكثر من سوانا، أن نقف في وجه غلواء جماعاتنا الثائرة. هذا واجبنا الذي علينا أن نؤديه، ولكم أن تحاسبونا عليه.