icon
التغطية الحية

محاينات ومحايثات | ذاكرة

2023.06.02 | 16:32 دمشق

سجون
(اللوحة: سليمان منصور)
+A
حجم الخط
-A

الزمانُ هو الحينُ بالنسبة للمكان، والمكان هو الحيثُ بالنسبة للزمان، إذ كلٌّ منهما جَدَلُ الآخر، أعني توأمهُ اللدود، ونحن فيهما لا بينهما، نتحاينُ ونتحايثُ بكل ما يقتضيان من البداهة والرهافة والجريانٌ واكتناه الوقائع والتوقعات والمواعيد والمقامات.

أَجَلْ.. الحين والحيث جناحا الزمان والمكان، وفي صيغة أخرى نهراهما اللذان يصبان في شطّ الوجود.

الزمن أمر آخر، وربما هو عالةٌ على الزمان كما على المكان، غير أنَّ له ما يشاء من الدلال، حتى لكأنَّ الزمانَ أبوه، والمكانَ أُمُّه.

أمَّا الوقتُ فليس سوى فداحةِ ومناحةِ آبائه وأجداده وابنهم الضالّ والعاقّ والمارِق والمأمول.

*   *   *

قبل 45 عاماً قلت في إحدى مقابلاتي إني أتمنى لو كان يومي 48 ساعة.

بعد اعتقالي 14 عاماً صرت أشعر أن الوقت شحيح أكثر مما كان أبداً، ولا أعرف كيف يمكن أن أعوِّض تلك السنوات.

الوقتُ من سُلالة الزمن والزمان والمكان، وهو في السجن يبدو لي أرحب مما هو في الخارج، إلا أنه لزج وزئبقي، ثقيل ورجراج، دنِس وعاطل عن العمل، ورحابته جوفاء ومتصحِّرة في كثير من الأحيان.

بمقاربة أنأى وأعمق، يمكننا القول إن السجن زمنٌ أكثر منه زماناً أو مكاناً، ولهذا فإن فداحته المعنوية نفسياً وروحياً أشدّ من فداحة جدرانه وجنازيره وأقفاله.

أن تخسر مالاً أو رهاناً أو عملاً هو أقلُّ وطأةً بكثير من أن تخسر عمراً، أي زمناً متعدِّد القابليات والاحتمالات.

الزمن في السجن استنزافيُّ الميل والهوى، في حين وحال أن الوقت في السجن يكرر نفسه إلى حدِّ الابتذال، وبالطبع إلى حدِّ الجفاف والعطش واستدراج السراب. ولكن حين يضيق المكان بكامل عتوِّ كلاكله وجنازيره، فلا بأس من تطاول الزمان والزمن والوقت "وتعريشهم وتلبلبهم" على الأسوار الرحمانية والشيطانية والبين بين. 

في السجن ليس هناك ما يستدعي أن تسابق الزمنَ من أجله، أما في الحرية فأنت تركض وتركض ولا تصل إلى نقطة العدّ العكسي.

السجن في بعض البلدان، يشبه حجز تذكرة ذهاب فقط، إذ إن تذاكر الإياب نفدت مسبقاً، وربما هي لم تُطبَع أساساً.

أفترض أن السيطرة على المكان ممكنة بطريقة أو بأخرى، في حين أن الزمن ليس كذلك، والوقت مثله أيضاً، رغم اضطرارهما إلى مداغمة المكان أو ملاغاته أو ملاغمته أو مناغمته.

مثلما نفكِّر في الفرق بين الزمان والزمن، ينبغي أن نفكِّر في الفرق بين السجن والاعتقال، لكي نضع كلّاً منهما في مكانه

تحدثت مراراً عن علاقتي بالزمن داخل السجن، ومع ذلك لم أصل إلى تحديد إيقاعه وكنهه بالضبط. ذلك أن هناك ما يمكن وصفه بلعنة الزمن، أو بالزمن الملعون، المخاتل والمتربِّص، أو الزمن الفخّ، أو الزمن الشبكة ذات الكلاليب والخطاطيف، وربما عليّ أن أضيف الآن إلى كل ما سبق أن الزمن عموماً، وخلال السجن خصوصاً، سيف ذو حدود وليس حدّين فقط، ليس بمعنى أن يقطعك أو تقطعه، بل بمعنى أن يتقاطع مع أوصالك وأفكارك وأنفاسك، ومع ما تنوي أن تزرع أو تحصد، وحتى أن تُغرِق صحاريك بما تشاء من سراب قد تأتي لحظةٌ تُحوِّله، أو يتحول فيها إلى ماء عذب رقراق مقطَّر.

أمَّا الإحساس بطول الزمن أو قصره، فهو في المقيل الأخير مرتبط بحجم ما يطرأ، وبحجم ما ينجز المرء فيه.

هناك من تمرّ أعوامهم خفيفة سريعة، وهناك من تتعتعه الأعوام بما فيها من إنجازات وأحداث وجراحات واجتراحات، حتى لكأن كلَّ عام دهر. وهناك استثناءات وظروف وشروط خاصة تخرج بالأمور عن هذه المعادلة ولو جزئياً. السجن على سبيل المثال، وأحياناً على سبيل الامتثال.

أفكر أحياناً أن السجن لفظة لا تعكس حقيقة حال من هم مثلي، إذ كنا في الحقيقة معتقلين لا سجناء.

مثلما نفكِّر في الفرق بين الزمان والزمن، ينبغي أن نفكِّر في الفرق بين السجن والاعتقال، لكي نضع كلّاً منهما في مكانه.

*   *   *

كتب الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار عن جماليات المكان والقيمة الإنسانية لأنواع المكان الذي يمكننا الإمساك به والدفاع عنه.

تُرى لو أراد باشلار أن يكتب عن المعتقلات التي مررنا بها أو مرّت بنا، فهل كان سيخطر في ذهنه جماليات المكان أم قباحاته وبشاعاته وفظاعاته؟

لا يمكن للمعتقل، ولا للسجن أن يكون مكاناً ذا جمالٍ من أي نوع، بل ربما لن يعتبره مكاناً، أو هو بصيغة أخرى مكان مضادّ، وزمنه زمن مضادّ بصورة مضاعفة عنه مكاناً، وهو من مكمن أو مقنص آخر يستحق أن نسميه الزمن الضائع، والضائع هنا لا يشبه المفقود في شيء، بل قد يكون نقيضه بلا حدود.