متى كانت أول "ضربة كف" في حياتك ولماذا؟

2024.02.10 | 06:24 دمشق

متى كانت أول "ضربة كف" في حياتك ولماذا؟
+A
حجم الخط
-A

كل "الكفوف" التي أكلتها في حياتي مرق ألمها الجسدي، لكن ألمها النفسي لست متأكداً من رحيله. عفوية التعبير باستعمال "أكلته" دليل على أثره، لأنه هو ليس ضربة على الوجه فحسب، بل دهس في كرامة الإنسان.

أحد "الكفوف" التي لم أنسها، أكلته، حين كنت أقف أمام مؤسسة استهلاكية، في الحي الشرقي بمدينة الميادين بهدف الحصول على علبة زيت وكيلو سكر في منتصف ثمانينات القرن العشرين، وفي رغبة استطلاع فضولي طفولي خرجتُ من الرتل لأستطلع مدى طول الصف الذي نقف فيه وما الوقت المتوقع، قبل أن يحل الظلام ولا أستطيع العودة إلى البيت.

غير أن عنصر المخابرات العسكرية لم يعجبه ذلك، تقدم إلي بكل ثقة، ودون مقدمات، استلّ يده كسيف، وضربني كفاً مدوياً، دمعت عيناي، وتمنيت أن تنشق الأرض وتبلعني خجلاً، في لحظة كان من المهم أن أحافظ على توازني أمام الناس، في رحلة ادعاء الرجولة لطفل في الثالثة عشرة. شرحتُ له أنني لم أحاول أن أتجاوز الدور وأنني أقف في مكاني منذ أربع ساعات، وردّدتُ أمام مسامعه مقولة كنت قد قرأتها في جريدة: المواطن بريء حتى تثبت إدانته!

ضربني كفاً آخر أو كفوفاً أخرى، وقال: عندنا نحن المخابرات: المواطن متهم حتى تثبت براءته!

وقابل مقولته كل من هم أمامي وخلفي بالابتسام والرضا، داعين إياي للصمت. خاصة حين كان يكثر من تجاوز الدور الذي نقف فيه عبر استثناءاته لمعارفه أو سواهم؛ مما أخر وصولنا إلى الشباك فنفدت المواد. وعاد كثير منا إلى بيته دون سمنة أو زيت أو سكر، وكان هناك بانتظار كثير منا "كف" آخر من الأب!

ليس الكف المخابراتي والأحاديث التي تم تداولها عن اعتداء هذه الدورية أو تلك على الناس في الشارع إلا ثقافة جديدة استندت لافتتاح مفرزة الأمن العسكري في مدينتي في مطلع الثمانينات من القرن العشرين، إذ كان من المعتاد أن نسمع أخبار الضرب في المعتقلات، أو في السجون.

كانت إشاعة ثقافة الضرب والتعفيس والترفيس في الفضاء العام من قبل السلطة المخابراتية لمن يعتقلونه، بغض النظر عن سبب اعتقاله، وهل ثبت أنه ارتكب خطأ أم لم يرتكب! رسالة جديدة مفادها: "لا كرامة أو حرمة لأحد" أو لا يوجد كبير، قبل الثمانينات، وفقاً لسوريين كثيرين، كان للبشر حرمة أحياناً، فحين يتم اعتقال الأب مثلاً لا يضرب أمام أبنائه!

شكلت إشاعة ثقافة الضرب من قبل المخابرات السورية أحد أدوات هيبتها وحضورها وأدواتها الضاربة في الفضاء العام الاجتماعي!

عادة ما كان فعل الضرب فعلاً أهلياً أو عشائرياً أو حاراتياً لأسباب مقعنة أو غير مقنعة، أما أن يغدو فعلاً سلطوياً معمماً فهذا هو جديد الثمانينات من القرن الماضي. أحد شيوخ أبرز عشائر العقيدات قال لي في منتصف الثمانينات: كنا يا بن أخي؛ إذا أقبلنا إلى مكتب المحافظ تفتح لنا الأبواب في أقصى سرعة لنقضي مصالح الناس! الآن عنصر من المخابرات يقتادنا في أي لحظة! يمكننا أن نقاوم بمفهوم القوة الجسدية أو العزوة العشائرية، لكنهم لم يتركوا كرامة أو هيبة لأحد!

شكلت إشاعة ثقافة الضرب من قبل المخابرات السورية أحد أدوات هيبتها وحضورها وأدواتها الضاربة في الفضاء العام الاجتماعي! وبدلاً من أن تحاول أجهزة الدولة محاربة العنف غير المنظم في المجتمع وقوننته عملت على إشاعته، ليدخل في باب الهيّن وأنه أفضل من عقوبة "النفض الكهربائي"!

كان الضرب جزءاً رئيسياً من حياة البشرية في الفضاء العام كحالة فطرية دفاعية أو هجومية، بصفته أداة حياة أولاً، وأداة تربوية عقابية في جانب منه.

كثير من البلدان تخلت عنه رسمياً واستبدلته بطرق تربوية أخرى، انسجاماً مع تغيرات فكرية واجتماعية واقتصادية عمت البشرية في العقود الأخيرة. إلا أنه لا يزال جزءاً رئيسياً من حياة السوريين الذين لا يزالون "يتضاربون" حتى اللحظة. وتكاد لا تغيب مفردة الضرب عن الكثير من أحاديثنا اليومية، من ضمن الخطاب العنفي الذي يملأ حياتنا: "خوزقتوا، طقيتلوا برغي، قبرتوا، نتفتوا، قتلتوا، قطعتوا، سيّحت دمه....".

ولدى الأجيال التي ترعرعت في القرن الماضي كان الضرب من قبل الآباء أو الأخ الأكبر جزءاً رئيسياً من الحياة العائلية، ومن خطاب الأبوين لطفلهما يردّان به لدى قيامه بأفعال محددة أو محاولته الخروج عن "شورهما". ولعله من حسن حظ أولئك الآباء أنهم لم يلحقوا بمصطلحات العنف المنزلي.

أما عنف الأقران وأولاد الحارات فهو في كثير من وجوهه عنف لأجل العنف، وتعبير عن أزمات نفسية واجتماعية، وكنا لا نتجرأ على المرور في عدد من الحارات، دون أن يكون معنا شاب طويل "مشكلجي"، ندفع له ثمن سندويشة الفلافل أو قرص "المشبك"!

أما ضربات أكف المدرسين، من مدرب الفتوة كجزء من العسكرة، إلى مدرس الرياضيات إلى مدرس الإنكليزي إلى "الموجه" والمستخدم أحياناً، فقد كانت جزءاً رئيسياً من حياة الكثير من السوريين!

أحد الكفوف التي أكلتها في حياتي، "كف" غير مقصود، حين أزاح الطالب الذي كنت أقف بجانبه رأسه هرباً من "كف" المدرس، في ردة فعل طبيعية. مما جعل يد المدرس تصيبني بدلاً منه، فأُصَابُ بالرعاف. لم ينمح اسم المدرس من ذاكرتي، "جابر الكركوش" وكنت في الصف الرابع الابتدائي، المشهد حاضر بكل تفاصيله حتى هذه اللحظة!

الضرب من المدرسين كان يأتي أحياناً كعقوبة جماعية للصف كله، وقد تعرضت له مع صفي حين تلقت إحدى طالبات الصف السادس رسالة غزل من مجهول!

 لم يشفع لذلك المعجب، سامحه الله، دافعه العاطفي، نتيجة أسباب اجتماعية ومقولات أُدْخِل فيها "العرض" والقيم، ودور المدرسة والمسؤولية الاجتماعية.

ربما يخطر ببال شخص لم يعش تلك الفترة أن يقول: ومن سيتغزل بفتاة في عمر الـ 12 عاماً أشير إلى أنها كانت في الخامسة عشرة لأنه كان السن الرسمي لدخول المدارس 7 سنوات، وهي تأخرت كذلك في الالتحاق بالمدرسة، نتيجة سفرها مع أهلها إلى البادية لرعاية الأغنام، إضافة إلى أنها تنتمي للجيل الذي كانت فيه الفتاة تتزوج ابتداء من الـ 12 عاماً وربما أقل، تبعاً لنمو جسدها وظروف أهلها والمفاهيم الاجتماعية.

اليوم؛ مما يقاضى عليه عدد من السوريين ممن لجؤوا إلى هولندا، وسبق أن تزوجوا من فتاة لم تتم الثامنة عشرة من عمرها، أي أنها طفلة، لأن مفهوم الطفولة القانوني في هولندا ينطبق على كل من لم يتم الثامنة عشرة، حيث إن للعلاقة معهم من الأهل أو سواهم قوانين خاصة جداً.

وحين أرى ذلك أقول: لكل زمان مفاهيمه وأعماره ومعطياته. وأتذكر مقولة فلسفية حفظتها في الثالث الثانوي تقول: الحقيقة قبل جبال البيرنيه هي غيرها بعد جبال البيرنيه، فأقول: الحقيقة في سوريا هي غيرها في هولندا!

كيف سنتغير بهذه السرعة ونتحمل التغير؟ ونستجيب له دون أن يترك بصماته النفسية علينا؟ بعد أن تقودك الحياة للعيش في مجتمع لا عنفي، وهو أمر يصعب التعود عليه. بل وصلت الأمور إلى إمكانية أن يُسْأل الطفل في المدرسة في أوروبا: هل يهددك أبوك بالضرب؟ حيث إن التهديد لون من ألوان العنف!

هل خلت حياة أي منا من الكفوف المعنوية التي لم تنقطع؟ تلك الكفوف المعنوية لها شعور أغور من شعور ضربة الكف أحياناً

ليس من الضروري أن تكون ممن أكل "الكف" تلو الكف في حياته، ربما كنتً مدللاً، أو وحيداً أو قوياً أو والدك ضابطاً أو تاجراً أو لست من تلك المرحلة العمرية التي أتحدث عنها في سوريا.

هل خلت حياة أي منا من الكفوف المعنوية التي لم تنقطع؟ تلك الكفوف المعنوية لها شعور أغور من شعور ضربة الكف أحياناً، نسميها أحياناً "خازوق"، أو "خازوق مبشم"، وأحياناً قرصة أذن وأحياناً "كف".

قد لا تكون ضربات على الوجه؛ لكن لها طعم تلك الضربات حيث تشعر بالبرودة والألم والخزي والقهر والخوف. ترغب أن لا يراك أحد، أو أن تنشق الأرض وتبلعك، خاصة إن وضعتك في خانة عدم القدرة على الرد لأنها جاءت ممن بجانبك أو ممن أمنت جانبه، تشعر للحظات طويلة أن يدك وقدرتك النفسية مشلولة ومقيدة ومردودة إلى عنقك كأنك تقول لماذا!

حذارِ منكَ، ربما كنتَ ممن أتاحت لك ظروفك أنك ممن يوجه "الكفوف" للآخرين فحسب! ولا تزال توجهها إلى من حوله من حيث يدري أو لا يدري، فلنتذكر أن ألمها عليهم مثل آلامها عليك، فهل سيكون ذلك مساراً في تخفيف منسوب الكفوف التي توجهها للآخرين!

يحدثني صديق: الكفوف لم تتوقف في مسار حياتي، حين تحاول أن تقترب من مصالح كثيرين، أو "شللهم" أو أن تفكك سردياتهم التي يتمكنون من خلالها من السرقة والعيش بأمان اقتصادي أو اجتماعي، ولم يترددوا بتوجيه "كفوفهم" نحوي، على شكل سهام تخص سمعتي أو ماضيي أو حاضري، قد تصل إلى العرض وإساءة السمعة وادعاء حكايات لا نهاية لها!

على الرغم من كل المآسي التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنها كشفت جوانب من "الضرب العائلي" ووثقته، وفتحت الباب لمحاسبة من يقوم به أو ردعه بخاصة ضرب الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمعات كحالة النساء.

وفقاً للأمثال، أجمل الضرب ما جاء من الحبيب على سبيل الإعجاب "فقيل "ضرب الحبيب زبيب"! أما وقد غدا الزبيب متوفراً وهناك فواكه أجود منه، فالأفضل، ربما، تبديل نوع الفاكهة؛ أو التخلي عن المثل نهائياً حيث صار أي نوع من أنواع الضرب يدخل في باب العنف، أو على الأقل، تقديم قراءة تفككية جديدة للمقصود بمفهوم الضرب في ذلك المثل!