متحف الصور المرعبة

2021.08.26 | 06:19 دمشق

درعا
+A
حجم الخط
-A

"الوقت قليل لأكون شاهدا على هذا السيرك العظيم"

بعبارة الشاعر الخضر شودار أبدأ، وأمضي إلى الصورة، التي باتت اليوم تتصدر المشهد، في الإعلام في وسائل التواصل الاجتماعي، في فن الإعلان، في التشهير، في الإدانة، تؤسس لغتها الخاصة، حتى باتت إحدى المشكلات الفلسفية للغة البصرية التي تملأ الشاشات بفضل الطفرات التكنولوجية في زمن الإعلام الرقمي، صور الحروب، صور ضحايا المعتقلات، صور اللجوء، صور عائلات تحت سماء البراميل، صور الخروج القيامي من المخيم، صور الكيماوي، صور سيزر، صور لا تحصى من الوجع والغبار والدم والصراخ والركض والجنون، كأننا ندخل غبار مجرة وعماء.

وسط متحف الصور المرعبة الذي نشهده اليوم، أكرّر سؤال الباحث عبد العالي معزوز في كتاب "فلسفة الصورة"،: "ما مآل العالم في عصر الصورة؟

هل تحوّلت الصورة إلى لحظة احتجاج، وبالتالي لماذا لم يعد العالم يكترث لصور الموت والغرق وانحطاط الأنظمة، وما تشعله من حروب؟

بل ما أهمية الصورة في تشكيل رأي عام عالمي، وفي الانتصار لقضايا الشعوب؟

هل تتحول الصور إلى ظلال، إلى زمن شاسع، وإلى أيّ درجة تشير إلى عدمٍ يشدنا ويمحو شيئا اسمه الحقيقة؟

هل تحوّلت الصورة إلى لحظة احتجاج، وبالتالي لماذا لم يعد العالم يكترث لصور الموت والغرق وانحطاط الأنظمة، وما تشعله من حروب؟

صورة آلان الصغير المرشوش بملح الغرق، صور شباب وصبايا يصارعون الموت، صور النساء الكرديات، صور أشبه بالقيامة للخارجين من مخيم اليرموك بدمشق، هدير طائرات يُخلّع مفاصل المدن، حتى صار الغبار قناعا على وجوه الجميع، أقنعة بلا عيون، هائمون يمشون، لا يعرفون إلى أين، فقط هاربون من الحرب من البراميل، ومن داعش، فهل نشم رائحة الموت في الصور، هل نسمع الصوت، وشهقة الحياة الأخيرة؟

نعيش زمن الصورة، ولكن لا زمن سوى الصورة نفسها، لا مكان سوى عالم افتراضي وعزلة تشدنا إلى بئر عميقة، بئر تبتلع كلَّ شيءٍ.

أرى صورا تتلاشى، عيونا تتلاشى، لا أعرف من يرى، من يسمع، لا أعرف شيئا، فمن مات ذهب إلى الحكاية، حكاية السوري، حكاية الحرب، حكاية صور سيزر، صور أطفال ونساء درعا، صور الحرائق والخوف في السويداء، حرائق في الدير، في عفرين، في الحسكة، صورة البنت الحمصية التي حوصر حيّها وهي تحمل وعاءً على رأسها تجمع فيه ماء المطر، وتشد الغيم إلى حمص.

لهذا ليس غريبا أن تقرأ الفوتوغرافيا كموضوع أنثروبولوجي جديد يثير كثيرا من التساؤلات، عن طبيعة الصورة وماهيتها، وعن كونها مرجعا حقيقيا لرصد تأريخ مرحلة، لا سيما التي بدأت 2011 ولا تزال مستمرة حتى الآن.

حين يعمُ الخراب تزدهر الصورة، وهنا أقف عند جريمة العصر، التي كشف بعض خيوطها مصور منشق عن النظام لقب باسم "قيصر"، والذي استطاع تسريب نحو 55 ألف صورة، توثق 11 ألف ضحية قضت في معتقلات الأسد، في حين لا يزال مصير عشرات آلاف المعتقلين مجهولا، على طرف آخر ثمة آلاف من الصور دفع أهل الضحايا ثمنها للتأكد بأن ابنهم المعتقل لم يعد حيا وبات رقما لا أكثر، رقما في مهب الغياب.

فهل صرنا اليوم نتجه من الواقع الواقعي إلى الواقع الافتراضي، نغادر الأشياء إلى العلامات؟

لعل أهم من انتبه إلى الثورة التقنية وآثارها الهائلة هو والتر بنيامين أحد أهم مفكري المدرسة الفرانكفونية، تلك التقنيات التي ظهرت مع اكتشاف الصورة الفوتوغرافية وتطورها، ومع الزمن باتت التكنولوجيا ليست مجرد أداة وإنما رؤية للعالم.

صارت الكاميرا، والموبايل، بدل الكلمة إنه نمط جديد في إدراكنا للعالم، الذي صار أسير الصور والعالم الافتراضي حيث نتابع ما يحدث في سوريا مثلا من خلال السوشيال ميديا ونتفاعل مع الصورة هذا العالم الذي يتسم بالفوضى، وهنا لا بد من الإشارة إلى حاجة العنف إلى الصورة كونها توثق اللحظة، فالعنف يتمثل فيما يتركه من علامة، ويعتبر في حكم الغائب إذا لم يتوسل بالصورة ولأن الصورة إظهار، ووجه من وجوه الإدانة، فإن المستبد يخافها، لكونها تشكل مستمسكا على عنفه، فهل الصور عنيفة أم الواقع، كيف يتبادلان الأدوار، والصورة تساوي أحيانا ألف كلمة؟

ومما لا شك فيه فإن الحرب تشكل مختبرا حقيقيا لصور العنف، فالثورة الرقمية فتحت عالما جديدا أمام الصورة ولم يعد العمل التصويري في يومنا هذا حكراً على المصورين الصحافيين، بل أصبح بمقدور كل من يشاء أن ينقل الصورة للعالم مباشرة، آخر الأخبار وأهمها، من خلال الصور الفوتوغراف، أو الفيديو أو حتى بقصة قصيرة مصورة، وكان نصيب الشباب الذين يسجلون العنف الاعتقال أو الموت حتما.

آلاف الصور ملأت جدران الأرض، والشاشات والمواقع الإلكترونية آلاف صور السوريين ولم يتحرك ضمير العالم لإيقاف مهزلة الاستبداد، كأنه لا يرى، في حين شكّلت صور «فتاة فيتنام» سخطاً شعبياً ودولياً كبيراً، انتفض الشارع الأميركي غاضباً ضدّ الحزب الجمهوري الحاكم آنذاك، برئاسة ريتشارد نيكسون، تلك الصورة كان مفعولها يوازي ألف مقال، وصلت إلى جميع أنحاء العالم، وساهمت إلى حدٍ كبير في وقف الحرب الفيتنامية.

يبدو أن زمن الصورة الذي نعيشه بات في حالة سبات في الأحاسيس وموت في المواقف، فالحرب مستمرة وصورة المستبد على العملات.

وتبقى الصورة بنت لحظتها، تُثبّت الزمن داخلها، وتدفع من يراها إلى السؤال: لماذا صور هذا الموضوع في تلك اللحظة، دون غيرها؟ وهنا تتأكد قدرة الفوتوغرافيا على التوثيق وتخطيها للحظة الراهنة في إعادة حرفية الزمن إلى الوجدان العاشق المرتعب..

صارت الصورة مساحة من مساحات الوطن للتعبير عن الحرية، وسلاحا حقيقيا لا يستهان به أبدا

لقد خرجت الصورة من مؤسسة الأنظمة، وبات التحكم المطلق للسلطة واهيا، وقد أسهمت وسائل التواصل والإعلام الجديدة في نشر علامات الإجرام وممارسات العنف التي تتفوق على أي خيال، فاتسع مجال الحرية، وباتت الصورة وسيطا ثوريا، وصار البحث في فلسفة الصورة مطلبا ملحا لامتلاك أدوات تفكيكها ونقد خباياها في خطابها للعقل من خلال العين، فالصورة إبداع للمفهوم كما يقول دولوز.

صارت الصورة مساحة من مساحات الوطن للتعبير عن الحرية، وسلاحا حقيقيا لا يستهان به أبدا، وقد ترافق هذا مع عدد كبير من الحملات، حملات ضد ممارسات النظام، حملات لإطلاق المعتقلين، ارتفع فيها آلاف الصور لا سيما في شوارع باريس، وكان النداء نحن الناجون نسأل عن مصير المعتقلين، حملات صامتة، ولم يكترث أحد.

وهنا أشير إلى ما أحدثته صورة الطفل آلان من ضجة، على صفحات الجرائد العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي، ولم ننس تعليق صحيفة «الإندبندنت» البريطانية، "إذا لم تغير صورة الطفل آلان الموقف الأوروبي من اللاجئين، فما الذي سيغيره؟".

يبدو أن العقوبات التي فرضها العالم على السوريين، زادتهم معاناة، المختار في قصره، والناس على حافة المجاعة والبرد والسخط، فهل يقصقص العالم أجنحة الحرية ويجعلنا في حالة يأس، لا يكترث لكل الأفلام ولا للمدن التي هدمت فوق أهلها، ماذا يريد هذا العالم من شرق يبحث عن رصيف كرامة يمشي عليه رصيف اسمه الوطن؟