icon
التغطية الحية

ما قبل البعث.. كيف كان الرأسمال الأجنبي في سوريا خلال 100 عام؟

2022.01.18 | 12:04 دمشق

2-28.jpg
أحمد العربي
+A
حجم الخط
-A

إن الحديث عن تغلغل الرأسمال الأجنبي في سوريا خلال مئة سنة، يعني أن نعود في التاريخ إلى ما قبل نشأة الدولة السورية منذ مرحلة ضعف الدولة العثمانية حتى انهيارها، مروراً بفترة احتلال منطقة بلاد الشام بما فيها سوريا من قبل فرنسا وبريطانيا، وتقسيمها إلى دول ودويلات.

كانت سوريا من نصيب الهيمنة الفرنسية حتى استقلالها عام 1946، وما تلا ذلك من تأسيس للجمهورية الأولى حتى قيام الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958.

وفي كتاب "أضواء على الرأسمال الأجنبي في سوريا (1850 - 1958)، يكشف الدكتور بدر الدين السباعي، تفاصيل دخول الرأسمال الأجنبي إلى البلاد، ويحلل أبعاده في تناول أكاديمي للموضوع، مقسماً كتابه إلى فصول وأبواب، شارحاً بدقة تنوع الرأسمال الأجنبي بين الفرنسي والبريطاني والألماني وغيره، من خلال التجارة والصناعة والطرق والموانئ، وتأثيرات ذلك على الاقتصاد الوطني السوري مرحلياً.

في ظل الحكم العثماني (1850 - 1918) 

خلال هذه المرحلة كانت سوريا جزءا من الدولة العثمانية، وبوابة اقتصادية مهمة، حيث بدأت السلطنة فتح باب التغلغل الأجنبي الاستثماري في سوريا على شكل استثمارات في كل قطاعات الدولة، والتي انطلقت بشكل بسيط في مرحلة السلطان القوي سليمان القانوني الذي منح بعض الامتيازات التجارية للفرنسيين ثم أخذت بالتزايد لتشمل الإنكليز ثم الهولنديين، والإيطاليين، والإسبان والأميركان خلال العقود التي تلت حكمه.

ومع تعاقب السلاطين لجأ الغرب إلى سياسة الحماية لبعض مكونات الدولة من الأقليات الدينية والطائفية والعرقية، وجعلتهم بمثابة أدوات لتبرير تدخلها في الدولة العثمانية وإدارة مصالحها الاقتصادية والسياسية وخلق تمييز اجتماعي يفيدها. 

وفي المحصلة، كان الأمر بمثابة احتلال اقتصادي ومالي فعلي للإمبراطورية العثمانية، بما في ذلك سوريا، قبل سقوطها بعقود، بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث كانت الدول الأوروبية تخطط لتقاسم الدولة العثمانية بعد الهزيمة، وذلك ما حصل في اتفاق "سايكس بيكو" السري عام 1916، والذي قسم الغنائم بين المنتصرين فاحتلت فرنسا "سوريا ولبنان"، واحتلت إنكلترا "فلسطين والأردن والعراق".

مجتمع سوريا قائم على الزراعة

وفي فترة حكم العثمانيين كان يعمل في الزراعة نحو 60 إلى 70% من السكان في سوريا، في حين كانت الصناعة والتجارة تستغرق نشاط 10 إلى 15%، ولهذا كان الإنتاج الزراعي يشكل النسبة العظمى من صادرات البلاد.

وكان أهم ما تصدره سوريا في تلك المرحلة، "الحرير الخام، والقط، وزيت الزيتون، والتبغ، والصوف، والجلود"، ومع زيادة تصدير هذه المواد الأولية، كان الإقطاعيون يجبرون فلاحيهم على إنتاجها، وعلى اقتطاع ريع عيني لقاء أجور الأرض المسلمة للفلاح أو حصة المالك، وهي الطريقة الشائعة آنذاك.

ولم يكن لدى سوريا، جهاز صناعي حقيقي، لتركز ذلك في مركز الدولة العثمانية، وليس في ولاياتها، واقتصر في مجمله على الإنتاج الحرفي والمنزلي عبر أدوات إنتاج بسيطة وتقسيم بدائي للعمل.

وعلى سبيل المثال، تمكنت إنكلترا من فرض تعرفة جمركية من طرفها على الدولة العثمانية، بنسبة 5% على الصادرات الإنكليزية إليها، دون أن يكون ذلك بالمثل، إلى جانب إمكانية تعديل النسبة من طرف لندن دون العودة إلى الحكومة العثمانية. لم تلبث هذه التعرفة أن شملت كافة الدولة الأوروبية مع زيادة النسبة إلى 8%.

وكانت الامتيازات الأوروبية عائقا أمام تطور الصناعة والتجارة في سوريا وعموم الدولة العثمانية، ما دفع الأوروبيين للتهافت على ميادين التجارة الهامة وخصوصاً الخارجية منها، حيث كان لفرنسا نفوذ تجاري واسع في سوريا، تركز في "حلب، واللاذقية، والإسكندرون" وقدرت قيمة مستورداتها بـ 6 ملايين فرنك.

ماذا كانت تصدر سوريا إلى أوروبا؟

وكانت الدول الأوروبية تصدر إلى سوريا في فترة العثمانيين، "أجواخ لنغدوك، وأصباغ كادي، والنيلة، والسكر، وقهوة الإنتيل"، إلى جانب الأواني المنزلية، والحديد الصب، وصفائح الرصاص والصابون، فيما كانوا يستوردون من سوريا "القطن الخام والمغزول والمنسوج، والحرير، والجوز والنحاس والصوف، وعرق السوس، والنبيذ، والأثمار، والحبوب".

وكان مشكلة الرأسمال الأجنبي في سوريا، أنها كانت تستورد المواد الأولية والغذائية بأبخس الأثمان، وتستفيد منها في صناعاتها ثم تعيد توريدها إلى سوريا وغيرها بأضعاف مضاعفة.

واستخدمت الدول الأوروبية سوريا، سوقاً لتصريف منتجاتها الصناعية، وزاحمت الصناعة المحلية، كما حققت أرباحاً هائلة في عملية الاستيراد والتصدير غير العادلة.

ولم يقتصر الرأسمال الأجنبي على التجارة بل شمل البنوك والقروض، حيث ملأت البنوك الأجنبية الدولة العثمانية اعتباراً من مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد كان "البنك العثماني" بين أهم 15 بنكاً وفرعاً للبنوك الأوروبية في القرن العشرين، أسس عام 1856 برأسمال إنكليزي محض، ومركزه الإداري في لندن، لكن الفرع الأساسي في إسطنبول، وخص سوريا بفروع مهمة شملت "دمشق، حلب، حمص، حماه ولواء إسكندرون".

فترة الاحتلال الفرنسي (1918 - 1943)

ما إن دخلت القوات الفرنسية الغازية سوريا ولبنان حتى بدأت بصناعة أمر واقع جديد قائم على تغلغل الرأسمال الفرنسي المستثمر للموارد السورية، تحت رعاية سلطة المستعمر نفسه.

فقد أعاد الفرنسيون تدوير صندوق الدين العمومي المترتب سابقاً على الدولة العثمانية وقُررت حصة على الدولة السورية الوليدة وبدأت اقتطاعات دائمة من مواردها المالية في الجمارك والضرائب وغيرها، كانت تصل إلى ثلث الإنتاج الوطني تقريباً. 

كما سيطرت فرنسا على الجهاز المصرفي كاملاً، والبنوك، وربطت بين العملة السورية الوليدة والفرنك الفرنسي، ووضعت يدها على الودائع البنكية الذهبية كاملة وحولتها للبنك المركزي الفرنسي، حيث ساهم ذلك بترميم الاقتصاد الفرنسي الخارج من الحرب العالمية الأولى حديثاً.

ولم تَسلم الطرق وشبكة المياه والتنوير الكهربائي الحديث والريجي (الدخان)، والنقل البحري والبترول، واستُثمرت هذه الهيمنة لتحقيق مصلحة المستعمر الفرنسي وشركات الاستثمار التابعة له على حساب السوريين جميعاً.

كما كان هناك حضور للاستثمار الانكليزي والإيطالي والأميركي في البترول والسكك الحديدية وغيرهما، بدرجة أقل من التوغل الفرنسي صاحب السلطة.

الرأسمال الأجنبي وتأثيراته الشاملة

لقد أثر الرأسمال الأجنبي على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في سوريا، وترك المستعمر الفرنسي الوضع الزراعي السوري في تخلفه السابق دون أي تطوير بوسائله وأساليبه، كما اعتمد على نهب إنتاجه وضبطه وربطه به، "بيعاً وشراء وتصريفاً"؛ بحيث زاد واقع الزراعة سوءاً وزاد بؤس الفلاحين.

 ولم يكن حال المهن الصناعية اليدوية العائلية أفضل، فقد تركت دون دعم أو تطوير، بحيث عجزت عن منافسة الصناعة الفرنسية القادمة حديثاً. 

ولم تدعم فرنسا تقوية توسع الطبقة الصناعية ورأسمالها داخلياً، حيث اعتمدت على طبقة الإقطاعيين الطفيليين الناهبين لإنتاج المزارعين، وتبذير أموالهم باللهو ودون إنتاجية.  

وانعكس هذا الواقع اجتماعياً بتعميم الفقر والمرض والجهل، وهيمنة طبقة إدارية فرنسية، ونشوء طبقة عاملة على هامش الصناعات الفرنسية المستحدثة في بعض القطاعات.

ومن الناحية السياسية، خرب دخول الفرنسيين الجغرافية السورية عبر إعادة تشكيلها على أساس أقاليم سينتهي بها الحال كمشاريع دول ودويلات صغيرة، فشل بعضها ونجح آخر.

فترة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية (1943 - 1958)

وخلال سنوات الاحتلال الفرنسي توزعت الرساميل والشركات الأجنبية في سوريا على مجالات متنوعة، فقد تمركز الرأسمال الفرنسي في قطاعات البنوك والضمان والسكك الحديدية والكهرباء، ثم في بعض المؤسسات التجارية والصناعية الأخرى والطيران، أما الرأسمال الإنكليزي فتركز في البترول ثم في التبغ والضمان إلى جانب النقل والمصارف، في الوقت الذي كان الرأسمال الأميركي يستثمر بالدرجة الأولى بالنفط، ثم الطيران وبعض الأعمال التجارية.

ولم يتمكن الرأسمال العربي من مجاراة الرأسمال الغربي، حيث حاول التغلغل في ميدان البنوك والضمان والطيران، إلا أنه كان محدوداً لضعف الإمكانيات المادية.

واجه السوريون الاحتلال الفرنسي لسنوات طويلة، وتمكنوا من الحصول على استقلالهم بشكل كامل عام 1946، وعلى الفور باشرت الحكومة الوطنية السورية في الأشهر الأولى بعد تسلم السلطة في رفع الوصاية الأجنبية عن الاقتصاد السوري، منتهجة مبدأ المصلحة الوطنية.

كيف استقل الاقتصاد السوري عن الأجنبي؟

وضمن قراراتها الأولى فكت ارتباط مؤسساتها مع الرأسمال الأجنبي، وألغت المحاكم المختلطة الفرنسية السورية، وشكلت محاكم وطنية، كما عُدل قانون العمل ليخدم العمالة السورية، وحُرر النقد السوري من ارتباطه بالنقد الفرنسي، كما أسس بنك مركزي سوري معبراً عن الاستقلال المالي والاقتصادي للبلاد. 

ودشنت الحكومة السورية خطط اعتماد التأميم للمصالح الغربية حيث كان الرأسمال الأجنبي متغولاً في معظم القطاعات الزراعية والصناعية في سوريا.

وفصلت الدولة السورية الوليدة الاتحاد الجمركي مع لبنان، وشكلت حماية جمركية ذاتية، ونظمت الاستيراد والتصدير بما يخدم مصلحة البلاد، ودفعت  باتجاه تعظيم الإنتاج الاقتصادي السوري وتنظيم الإعفاءات والمساعدات للمنتجين السوريين، وضمان المعاهدات والاتفاقيات التجارية. كما رعت تطور الاقتصاد الوطني في الزراعة، حيث اعتمدت المكننة وتوسيع الأراضي الزراعة البعلية والمروية وعملت على اختيار البذور الجيدة وتوسعت في زراعة التبغ والقطن بما يحمله من فائدة اقتصادية كبيرة.

وعملت على تطوير المجال الصناعي لاستيراد الماكينات الحديثة في معظم المجالات الصناعية كالنسيج والغذائيات، إلى جانب الاهتمام بالنقل والمواصلات حيث استحدثت طرقاً جديدة وعملت على صيانة الطرق السابقة وعبدتها.

ولم يكن ذلك ليجري إلا في إطار مسار ديمقراطي نيابي قادته الوجوه الوطنية السورية التي ناضلت ضد المستعمر الفرنسي، إلا أن الدول الغربية لم تقبل بذلك فبدأت بدعم الانقلابات العسكرية بدءاً من عام 1949 حتى عام 1954، عانت خلالها البلاد من انعدام الاستقرار السياسي إلا في السنوات الأربعة المقبلة، والتي انتهت بإعلان الوحدة المصرية السورية عام 1958.