icon
التغطية الحية

أول برلمان سوري في التاريخ.. ممارسة ديمقراطية واعية

2021.05.01 | 06:31 دمشق

ada-almwtmr-alswry-alam-19191254785.jpg
أعضاء المؤتمر السوري العام 1919 (إنترنت)
إسطنبول - فاطمة ياسين
+A
حجم الخط
-A

أظهرت القوات العربية منذ دخولها إلى دمشق ورفعها أعلاماً تمثلها في كل مكان، طموحاً جغرافياً مترامي الأطراف يشمل سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، وفي الواقع كان المكان الوحيد الذي تهيمن عليه القوات العربية بشكل كامل هو الحجاز فقط، ولديها وجود محدود في دمشق، بينما كانت بريطانيا تسيطر بشكل كامل على فلسطين والأردن والداخل السوري، وكانت القوات الفرنسية تسيطر على الساحل الشمالي لسوريا، ولكن الطموح الملكي للأمير فيصل تجاوز الموانع العسكرية فأراد أن يعتمر تاجاً يضم كل تلك البلدان وعمل منذ أن وطئت قدمه أرض دمشق على هذا الحلم الكبير.

شكّل الوصول إلى دمشق بما تمثله من رموز تاريخية ودينية واعتبارية حافزا لفيصل، وكان على بريطانيا هنا أن تواجه ثلاث جبهات: الجبهة الأولى هي جبهة القومية العربية التي انتشرت منذ أواخر العهد العثماني في أحزاب وتيارات وجمعيات وأفكار، وكان خروج العثمانيين مناسبة جيدة لإذكائها وبث روح قوية فيها، أما الجبهة الثانية فهي جبهة فرنسا التي ترتبط معها بمعاهدة لم تعد سرية بعد أن فضحتها روسيا البلشفية المختفية عن مسرح السياسة، والمعاهدة كانت في الواقع هي "سايكس بيكو"، فقد كانت بريطانيا تهيمن على معظم المناطق التي خصصتها المعاهدة للنفوذ الفرنسي، وكان عليها أن تجد طريقة لإحلال فرنسا بدلا منها، أما الجبهة الثالثة فهي جبهة فيصل نفسه ذلك الحليف الذي كان سندا مخلصا منذ اليوم الأول للحرب وها هو قد وصل إلى قلب ساحة المرجة في دمشق ويطالب بما يعتقد بأنه حق قد بذل له من البريطانيين.

وجدت بريطانيا في مؤتمر السلام الذي عقد مطلع العام 1919، مكانا يمكن أن تنفرد فيه بفيصل وتحل اشتباك المطالبات الفرنسية بطموح فيصل وأحلام القوميين العرب. حضر فيصل المؤتمر وهناك في وسط تجمع غير معتاد على الجلوس فيه تيقن بأن يجب أن يقلص من أحلامه الواسعة، فهناك شاهد ممثلين يهود، ولمس جفاءً فرنسياً، ولم تقنعه جوائز الترضية البريطانية التي جاءت على شكل أوسمة وألقاب، فعاد من مؤتمر السلام بغير الوجه الذي ذهب به، وانعكس كل ذلك على شكل سلوكيات مرتبكة وحذرة طوال فترة وجوده التالية في سوريا، فتنازل قليلا للفرنسيين وهدد البريطانيين أحيانا بنفوذه عند القبائل في الصحراء، وترك القوميين ينفذون حلما عزيزا بإقامة انتخابات يخرج من لدنها مؤتمر عام يقرر مستقبل البلاد.

لم يكن لدى البلاد قانون انتخابي ولا قانون جزائي ولا إعلان دستوري، لم يكن لديها سوى القوانين الموروثة من العهد العثماني، والمشكلة الأخرى كانت في طبيعة القوات المحتلة ففي المناطق التي تسيطر عليها فرنسا رُفضت الانتخابات ولم يسمح لكثير ممن أجمع عليهم المخاتير والوجهاء بحضور جلسة الافتتاح، ومنع القائد العسكري هناك، التجمعات الانتخابية في المنطقة الغربية والجنوبية، وجرت الانتخابات على عجل في المنطقة الشرقية، وأفرز التحرك السياسي الهادف لإنتاج مؤتمر يمثل سوريا كلها عن ظهور خمسة وثمانين عضوا كان بعضهم أعضاء في مجلس المبعوثان العثماني السابق، مع فئات عمرية شابة ومثقفة ومتنوعة الانتماء العرقي والمذهبي، ويمكن في الواقع اعتبار هذا المؤتمر ممثلا لأطياف ديمغرافيا المنطقة التي كان يطلق عليها سوريا، في ذلك الحين وهي سوريا الحالية مضافا إليها فلسطين والأردن ولبنان.

في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الذي عقد في أوائل شهر حزيران عام 1919، تمكن تسعة وستون عضوا من الحضور، وكان قد انقضى تسعة  شهور على دخول الجيش العربي إلى دمشق، وهي مدة طويلة قضتها البلاد بوضعية الأراضي المحتلة، دون أي قانون تأسيسي أو ورقة حقوقية تضبط أوضاعها السياسية المضطربة، ورغم ذلك عُقدت الجلسة الأولى بمن حضر، وكما هو متوقع من مندوبي شتات جغرافي وإثني وديني، جرى خلاف وبرزت اتجاهات كثيرة رغم التوجه القومي العام الذي ظهر بين أعضاء المؤتمر، ذلك أن من يمتلك رأيا مخالفا لم يحظَ بوزن كبير في المؤتمر ولم يكن صوته قويا بما يكفي ليحدث فرقا مهما، كبعض الأقليات الدينية التي اقتربت أكثر من فرنسا وكانت متعاطفة مع طروحات الانتداب وأبدت ميلا إلى إقرارها كحل مفيد.

كانت لكنة مقررات المؤتمر متفاوتة فهو قد بدأ بسقف مرتفع ثم هبط شيئا فشيئا وكأنه على دراية بأن أحلامه الاستقلالية مجرد أحلام لا يمكن تحقيقها، فهو أكد في البداية على استقلال سوريا التام الكامل الشامل فوق الجغرافيا الوطنية دون وصاية أو حماية، وتعقيبا على هذا القرار رفض المؤتمر المادة 22 من قانون عصبة الأمم المتحدة الذي يشمل سوريا ضمن الدول المحتاجة إلى دولة منتدبة تساعدها في إدارة شؤونها، ثم بدأت لهجة مقررات المؤتمر تخف بالقول وإذا كان لا بد من الانتداب فالسوريون يفضلون أميركا كدولة منتدبة!

وكان أعضاء المؤتمر يعتقدون بأن أميركا دولة متطورة ليس لها أي أطماع ويمكن أن تساعد فعليا السوريين في إدارة شؤونهم، وتواصل خفوت اللهجة بالقول: وإذا تعذر أن تأخذ أميركا دور الدولة المنتدبة فلا بأس ببريطانيا، ووقف أعضاء المؤتمر موقفا متصلبا من فرنسا، ورفضوا بشكل كامل أن تكون الدولةَ المنتدبة، وهذا الموقف يستند إلى وهم الدعم البريطاني ومبادئ ويلسون الدولية التي نشرها في نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكن المؤتمر كان واضحا في تبنيه لمقررات تحترم التعدد وتصر على إعطاء الأقليات حقوقها الثقافية ضمن لامركزية كبيرة، كل ذلك ضمن ملكية دستورية على رأسها فيصل بن الحسين.

كانت ممارسة ديمقراطية قصيرة أظهر فيها السوريون تفهما للموقف الدولي ووعيا ديمقراطيا وسياسيا مبكرا رغم قرب العهد بالفترة العثمانية الطويلة، لكن لم يكتب لهذا الحلم التحقق وقبل أن ينطفئ كان على السوريين أن يوجهوا لجنة أرسلها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون للوقوف على حقيقة الوضع في سوريا.